ما إن أُفكّر بالشروع في كتابة مقالة صحفية إلاّ ويسيطر عليَّ هاجسُ التنوير وضرورة ممارسة فعل التثقيف بالكلمة، ولكن ما إن يخطُ قلمي آخر كلمة في المقالة إلاّ وأبادر بمساءلة نفسي: هل من جدوى لما كتبته فيها؟..
وهل سيكون هناك من يحتفي بما طُرح، ويقرؤه، ويتبنى ما في المقالة من رؤى وأفكار جديرة بالأخذ في الحسبان؟.. ومن هنا أجد نفسي متأرجحاً بين قرصي طاحونة الرحى.. تارة مأخوذاً بفكرة صرف الجهد والطاقة فيما لا نفع فيه، وفي أحيان أخرى يتراءى أمام ناظري مدى أهمية وفائدة الاستمرارية في بعث إشارة مفيدة، وإلماحه بناءة حول أمر هنا، وقضية هناك.. وبين دعوتي التوقف والاستمرار أود النظر مليّاً في مبررات صدى كل اتجاه من أجل الخروج بنتيجة حتمية تُنير لمن هو متأرجح بين هاتين الدفتين من الكُتّاب.. ومن يشاركني حديث النفس.. هذا الدرب الذي يحسن بنا أن نسلكه إن يمنة، أو يسرة.
ما يجعل الميل إلى الاستجابة للصوت المنادي بالتوقف عن الكتابة الصحفية أنه في واقعه رجيع صدى فكرة أنّها نوع من العبث الذي لا طائل من ورائه إلاّ المتعة الوقتية التي يجدها القارئ باقتناصه جزءاً من وقته يقضيه في تصفح سريع لها.. ومن ثم فليس للمداد المكتوب ذلك التأثير الكبير الذي يرجوه ويتمناه الكاتب، ولذا فهي أقرب إلى الفعل العبثي غير المجدي، أو بالأحرى هدر كتابي.. ومن هنا يجدر بمن لديه القدرة والإمكانية الكتابية التوقف، واستثمار طاقته فيما هو أكثر فائدة.. ويدعم هذا الرأي أن الرسالة المضمّنة داخل المقالة الصحفية قد تسهم فقط في إحداث تحول في المواقف والاتجاهات، ولكنه في معظم أحواله وقتي يزول سريعاً بزوال تقادم ما احتوته هذه المقالة من معلومة، وبهذا فليس لها دور في إحداث التغيير، أو التشكيل المعرفي للمتلقي، وإنما يتوقف تأثيرها على تغيير في المواقف بشكل عارض لا يمتد بأي حال لأعماق النفس.
والسبب الآخر الذي ربما يقود الكاتب لتغليب فكرة الانسحاب من ميدان الكتابة الصحفية.. مرده فيما يبدو إلى مصادمة فعل هذا النوع من الكتابة، وقطعها الطريق على سياسة، أو ثقافة التطمين التي تُترجم عادة بالمقولة الشعبية المشهورة لدينا: (أبشرّك الأمور على ما يرام)، والادعاء بأن ما يُثار في حقيقته أخطاء فردية، أو حوادث هنا وهناك يتم تضخيمها، وتعميمها لجعلها قضية.. وهي ليست كذلك من دون الأخذ في الحسبان ظروفها وملابساتها ومحدوديتها، ويأتي الركض باتجاه الإحجام عن الكتابة رغبة أيضاً في الاستجابة للابتعاد عن التأليب الجمعي، ومحاولة إثارة المشاكل والبلبلة، والطلب بالامتناع عن الكشف عن السلبيات والنواقص، ورفع اللثام عن المستور، والأهم من ذلك كله الاستجابة لهوس الحكمة المزعومة بجدوى مناقشة ومعالجة القضايا العامة بالسرية، ومن داخل ردهات محكم إغلاق أبوابها حتى لا يتم نشر مثالبنا وقصورنا على بارحة الطريق ليراها كل غادٍ ورائح.
وإلى جانب ذلك يمكن إرجاع الضعف والانكسار أمام حديث النفس المنادية بوضع حد لرحلة الكتابة الصحفية إلى حقيقة أنَّ الأجواء ليست سالكة كما يتراءى للناظر.. فالمجتمع لم يتهيأ بعدُ للدخول في عصر المكاشفة، والمصارحة، والشفافية، والمواجهة، بدليل أنَّ من يجرؤ على القفز على السواتر التقليدية يُقابل بالتشكيك في نواياه، وتتم مهاجمته في شخصه، والإشارة إلى أنَّ طرحه ما هو إلاّ محاولة منه للاصطياد بالماء العكر، والرغبة في الثأر الشخصي، ومحاولة بناء مجد ذاتي على حساب الحقيقة، وما يتناوله لا يلامس في حقيقته الواقع.. وليت الأمر يقتصر على ذلك، بل نجده يتجاوز ذلك إلى محاولة إقصاء وتنحية الكاتب، وعدم إعطائه مساحة للتعبير عن رؤاه وأفكاره الموثّقة بالمعلومة، والمستمدة من واقع الممارسة الفعلية والدافع فيها الإصلاح ولا غير.
كما أنه يمكن إضافة إلى الجوانب الثلاثة الآنفة الذكر.. الإشارة إلى ما يُتداول من قِبل البعض عن محدودية هامش الحرية في الصحافة السعودية، ووجود بيئة إعلامية خانقة للطرح الإعلامي الحر، وبخاصة عند مناقشة مواضيع ساخنة تمس شأن الأداء الحكومي في الكثير من القطاعات والمؤسسات مدعاة لعدم محاولة ملء صفحاتها بأطروحات لن ترى النور، أو على الأقل سيسمح بمرور بعض منها على نطاق ضيق محدود لا يروي عطش الكاتب، ويدفعه لتقديم المزيد والمفيد بهدف وضع لبنة مثمرة في مشروع الإصلاح الوطني الشامل.
ويقابل رحى العبثية هذه ذات الأضلاع الأربعة التي تنادي جميعها بمن لديه القدرة الكتابية إلى التريث حتى يحين الوقت والظروف المناسبة لاقتحام عالم الكتابة الصحفية، رحى قيم التنوير والتقدم المقابل ذات المرتكزين المتمثلين بضرورة اقتناص واقع الفترة الحالية، وكذلك الحاجة الماسَّة للاستجابة لنداء الواجب الوطني.
الواقع يشهد بأن هذا هو أحد أفضل الأوقات، ولا سيما أنّ القيادة العليا في الفترة الراهنة تتبنى النهج الإصلاحي، وتسعى حثيثاً من أجل تنشيط وتسريع وتيرة حركة التصحيح من أجل الدفع بالنهج الإصلاحي خطوات للأمام في مختلف قطاعاتها التنموية بما في ذلك الجانب الاقتصادي، والاجتماعي، والتعليمي، والثقافي، والنظام القضائي، وفي غيرها من الجوانب، وبالتالي فهي فرصة سانحة لتقديم أطروحات حيال قضايانا الاجتماعية، والتربوية، والاقتصادية، والسياسية والثقافية والفكرية، وغيرها من القضايا في مختلف الحقول والمجالات بكل شفافية، واتزان، وحيادية من أجل تلمُّس سبل راحة المواطن، ورفاهيته، ومحاولة إثراء الرأي العام، وتقديم رؤية شمولية ذات تحليل عميق تُراعي خصوصية المجتمع، وتنظر بعين الرقيب والراصد للتحولات العالمية وانعكاساتها الداخلية، وتحاول الابتعاد مسافات عن مجرد محاولة استثارة وتأليب الرأي العام، وتضع في حسبانها أن قضايانا ومشاكلنا المحلية ما هي إلا تراكمات لتحولات في مختلف المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، والثقافية، والإعلامية شهدتها ساحة مملكتنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والتي أفرزت مجموعة من القضايا والمشكلات.. ها نحن نحصد نتائجها اليوم.
والمسؤولية اليوم أكثر من ما مضى ملقاة على عواتق الكُتَّاب من أجل قيادة الرأي العام من على منابر صفحات القوة الناعمة، وتثقيفه وتنويره، وتوعيته تجاه قضاياه ومشكلاته المصيرية، والوقوف في وجه كل ما من شأنه تقويض أركان مجتمعهم، وهدم مكتسباته.. مستخدمين في ذلك سلاح الكتابة، وبخاصة التحليلية المشفوعة بالمعلومة الدامغة، أو الرقم الدال لمعالجة قضايا المجتمع المفصلية، وحشد الرأي العام ضد أي ظاهرة سلبية، وتسليط الضوء عليها، وتشخيصها على أساس علمي، وقراءة جذورها وظروفها، ومحاولة كشف أسبابها، ووضع الحلول الواقعية، والمقترحات المناسبة لها.. مبتعدين في ذلك كله عن التلقينية والخطابية والمباشرة في طرحهم الصحفي كي يستنير ويهتدي بها ناشد الحق، والباحث عن الحقيقة، والمصلحة العليا ليدوم الوطن شامخاً عزيزاً.
ويبدو أن التأرجح لمن يملك القدرة الكتابية بين هذين الطرفين يحسن أنَّ الغلبة فيه تكون مع السعي قُدماً لتسخير هذه القدرة في صالح الشأن العام، والاستجابة لداعي مواصلة الركض الكتابي لكونها أحد مناح السلطة الرابعة التي يمكن النفوذ من خلالها لإبراز قيم المجتمع الفاضلة، ومنجزاته الرائدة، ووسيلة فعّالة لدعم المنجز الصالح، وفي الوقت نفسه هي منصة لتعرية النقائص، أو المشهد السلبي من أجل إيجاد حلول جذرية لإقصائها والتخلص منها، أو لنقل للعمل على تفكيك الواقع المرتبك، ومن ثم إعادة تركيبه بطريقة مفهومة، وبما يسمح في ترتيب لبناته في الاتجاه الأكثر إيجابية..
وذلك أيضاً يعود إلى أنها قناة تواصل مع الرأي العام تعكس همومه، وقضاياه الأساسية، وتحاول أن ترتقي به نحو الأفضل.