دعوني أضع السؤال بصيغة أخرى: هل الإرهاب سببه ودافعه وباعثه ارتفاع سقف الحرية الإعلامية في البلاد، وبالتالي فإن علاجه يبدأ من (تكميم) الأفواه كما ينادي كثير من دعاة مصادرة الحريات؟
سؤال يطرحه البعض، ويُلحون عليه؛ فهل هذا السؤال صحيح؟..
في تقديري أن العكس هو الصحيح. الإرهاب بدأ منذ جهيمان، وانتهى بابن لادن؛ طوال تلك الفترة لم يكن أحدٌ يستطيع أن ينتقد أيّ ممارسة دينية متشددة، أو فتوى من شأنها دعم التشدد، أو حتى يناقش خطبة جمعة. كان نقد التشدد تقريبًا شبه (ممنوع)، وكانت ممارسات الصحافة في التوعية والتثقيف، والمشاركة في الحوار بين أطياف المجتمع، في غاية الضعف. الوحيد الذي جابه التشدد آنذاك كان غازي القصيبي -رحمه الله- عندما أصدر كتابه الشهير (حتى لا تكون فتنة). يومها استشاط التيار المتطرف غضبًا، وتآزر المتشددون للرد عليه، والتسفيه بآرائه، وتخوينه. كانت ردودهم خليطًا بين الشتم والسب والتجريح؛ وكانت -أيضًا- مثالاً جيدًا على ضيق الأفق، وضحالة الرؤية، ومحدودية الفكر، وعدم القدرة على استشراف المستقبل.
وعندما احتل صدام الكويت، وجثم على حدود المملكة، هبَّ التيار المتطرف يعارض أن نستعين بالقوات الأجنبية، دون أن يطرحوا بديلاً ممكنًا لمجابهة الغزو. استغل أساطين (حركيي) المتشددين منابر المساجد وأشرطة الكاسيت، وبعض المطويات، والكتيبات (أم ريال)، في فرض رؤيتهم؛ ضربت الدولة بمعارضاتهم وتصعيداتهم عرض الحائط، واستعانت بعدد من القوات الصديقة، وطُردَ صدام من الكويت، وخرجت القوات الأجنبية، ولم يبقَ منها جندي واحد. وسقط رهان المتشددين. في هذه الأثناء بدأ نجم ابن لادن والإرهاب في الظهور.
كانت أول عملية إرهابية عرفتها بلادنا في منتصف التسعينات من القرن الماضي وتحديدًا في 13 نوفمبر 1995 استهدفت بعثة تدريب أمريكية في العليا في الرياض. ثم توالت العمليات: ففي 25 يونيو 1996 انفجار صهريج مفخخ يستهدف مقرًا سكنيًا للجيش الأمريكي في الخبر، وفي 12 مايو 2003م انفجارات في 3 مجمعات سكنية في الرياض، وفي 8 نوفمبر 2003م انفجار في مجمع سكني (المحيا) في وادي لبن في الرياض، وفي 21 أبريل 2004م انفجار سيارة مفخخة فيها انتحاريان أمام مبنى المرور في الرياض، ومقتل 6 وإصابة 148 آخرين. وفي 22 مايو 2004م مقتل مقيم ألماني في الرياض، وفي 29 مايو 2004م هجوم مسلح قاده أربعة مطلوبون على شركتين ومجمعًا سكنيًا في الخبر، انتهى بمقتل 22 شخصًا. وفي 9 يونيو 2004م مقتل مواطن أمريكي في منزله في الرياض. وفي 18 يونيو اختطاف وإعدام رهينة أمريكي وجز رأسه، والاحتفاظ به في الثلاجة! وفي 6 ديسمبر 2004م مقتل خمسة موظفين في القنصلية الأمريكية في جدة، وفي 29 ديسمبر 2004م انفجار سيارة مفخخة جوار وزارة الداخلية وأخرى قرب مركز قوات الطوارئ في الرياض. وفي 24 فبراير 2006م هجوم انتحاري فاشل بسيارتين مفخختين على مجمع بقيق النفطي (وهذه العملية لو نجحت لأصبحت الحياة في جزء كبير من المنطقة الشرقية مستحيلة). وفي 25 فبراير 2007م مقتل 4 سياح فرنسيين مسلمين على يد عناصر القاعدة شمال المدينة المنورة.
بعد كل هذه الجرائم كان لا بد للإعلام بشكل عام، والصحافة على وجه الخصوص من المشاركة في (تنوير) المواطنين، ونقاش الأسباب والبواعث والدوافع و(الثقافة) التي أدت إلى أن تكون بلادنا، وشبابنا، من أهم مصادر تمويل الإرهابيين بالكوادر البشرية، ليس داخل المملكة فحسب، وإنما في الخارج أيضًا؛ وهذا ما حدث طوال العقد الماضي..
والسؤال الذي يفرضه السياق: هل الإعلام هو الذي بدأ، أم أنه (فقط) مارس مهماته في التوعية والتثقيف والإشارة إلى موضع الخلل؟.. لذلك فإنني على قناعة تامة أن غياب الإعلام في الماضي عن المشاركة في التثقيف والتوعية و(نقد) بعض الممارسات الدينية الخاطئة، وبالذات ثقافة التشدد، كان من أهم أسباب (تفشي) ثقافة الإرهاب، التي لم تأتِ أساسًا إلا لأننا (جاملنا) التشدد والمتشددين، ورضخنا لبعض تفسيراتهم، واجتهاداتهم، فانتهت بنا وببلادنا إلى الإرهاب؛ وأنا احتفظ بفتاوى وآراء ومقولات وتعليقات موثقة، تثبت أن ثقافة الإرهاب والإرهابيين التقطت بعض فتاوى عدد من مشايخنا، أو من يصنفون على أنهم من مشايخنا، لتكون هي (الثقافة المرجعية) التي من خلالها يجري تجنيد الشباب الغر في جحافل هذه الحركات الدموية التدميرية الإجرامية. وأنا على قناعة لا يخالجها شك أن الحرب على الإرهاب تبدأ من تجفيف منابع (ثقافته)؛ وسنظل نراوح مكاننا، وندور حول أنفسنا، ونصدر القائمة تلو القائمة بأسماء من تورطوا في الإرهاب من شبابنا، طالما أننا نقف عند (فوهة) النفق ننتظر الإرهابيين ليخرجوا منه ونقبض عليهم. دون أن ننسف النفق بمن فيه، منظرين وملقنين ومنفذين وثقافة، فلن نقضي على الإرهاب؛ أعرف أن هذه الحقيقة مُرَّة، وربما تكون مؤلمة، إلا أن الكي هو الآخر مؤلم، وأحيانًا يبقى العلاج الذي لا علاج غيره.
إلى اللقاء.