ومضة:
الخطأ والصواب معادلة صعبة جداً..كلٌّ منا يفهمها من منظوره!
كثرت الآراء التي تتهم عصرنا الحالي بأنه زمن تتكاثر فيه ظاهرة الكُتَّاب، فالأسماء غزيرة والإبداع شحيح؛ بمعنى أننا في فوضى. لهؤلاء أقول: لماذا لا نسميها تأدباً (فورة ثقافية عارمة) وإن كانت بحاجة إلى قليل من الضبط والغربلة. فالكل يكتب والكل يمتلك هذا الحق، وللكل الحرية في التعبير عن رأيه. وبدلاً من النظر إلى الأمور بطريقة سلبية، ولنكن أكثر فاعلية وإيجابية، فلنعمل معاً على وضع مواصفات للكاتب الناجح.
فمن هو الكاتب الناجح؟
وما الذي يميز القلم الحقيقي عن غيره من الأعمال الكتابية؟
وما هي المعايير التي يتاح لها الحكم على أدب ما بأنه أدب رفيع وعظيم؟
هل هو الذي يجيد إيصال الفكرة ويمتلك القدرة على الرد والنقاش؟
أم هو الذي يزيّن كلماته ويلفها بالغموض والرمزية؟
أم هو القادر على صياغة الأفكار ووضعها في قالب مناسب؟
أم هو الكاتب الذي تتجاوز نصوصه امتحان الزمن فتبقى قادرة على بث المتعة الأدبية وجذب الجمهور حتى بعد انقضاء الظروف الزمنية والمكانية التي حكمت إنتاجها؟
ولا أُخفيكم أنني وبعد تفكير عميق توصلت إلى رأي شخصي متواضع حسم حيرتي، ومفاده بأن لكل متلق ذائقته الأدبية الخاصة، فما يروق لي قد لا يروق لغيري. والكاتب الساخر قد يستهوي أحدهم، بينما يفضّل الآخر الكاتب الجاد أو الغامض أو الحكيم...
أما أنا فالكاتب المبدع بحق، والذي يدفعني إلى متابعة كتاباته والبحث عنها، هو الكاتب الأكثر تأثيراً في عقلي، يحفزه على التفكير، ويدفعني دفعاً لاستخلاص الحكمة والمعنى العميق مما أقرأ، يخاطبني فأشعر أن كلامه موجهاً لي أنا، تفرح روحي بكلماته وتجد ضالتها لديه؛ بمعنى أنني أتناغم معه ونُحلّق في فكر واحد.
من هؤلاء الكُتّاب الذين تميل لهم ذائقتي بشكل كبير، الكاتب الروائي والقاص البرازيلي (باولو كويلهو)، حيث تتميّز كتاباته بمعان روحية خاصة، وقد قرأت له مؤخراً مقالة بعنوان (أغلق الحلقة - الفترة الزمنية)، يقول الكاتب:
كل شخص عليه أن يعي تماماً متى تصل المرحلة الحالية في حياته إلى نهايتها. لأننا إذا أصررنا على الاستمرار في تلك المرحلة أطول من الوقت اللازم، نفقد اللذة والمعنى للمراحل التالية التي علينا عبورها.
إنهاء الحلقة أو الفترة الزمنية الحالية، إغلاق الأبواب، إنهاء الفصول...وغيرها من المسميات، وبغض النظر عن تلك المسميات، إلا أنها في حقيقتها تحمل معنىً واحداً وهو مغادرة لحظات الماضي المنتهية.
تُرى هل فقدت عملك؟
هل وصلت علاقتك العاطفية بالحبيب إلى نهايتها المحتومة أو غير المتوقعة؟
هل غادرت منزل والديك أو أُجبرت لأي سبب على الابتعاد أو السفر للخارج؟
هل انتهت على حين غرة علاقة قوية تربطك بصديق؟
يمكنك أن تقضي وقتاً طويلاً جداً في التساؤل عن سبب حدوث تلك الأمور، كما يمكنك إقناع نفسك بأنك لن تستطيع اتخاذ الخطوة التالية في حياتك ما لم تعلم ما الذي حدث لتلك الأمور المهمة الثابتة التي كانت وانتهت فجأة وبهذه الصورة غير المتوقعة. ولكن هذه القناعة ستكون مؤلمة، ليس لك أنت فحسب، بل لكل المحيطين بك ومن يهمهم أمرك. فعلى الرغم من أن الكل سيكون قد قلب صفحة من حياته، وتحول إلى مرحلة أخرى، وتأقلم مع الحياة وتقبّلها، إلا أن الضيق سيداخلهم لرؤيتك بحالة الجمود والتوقف التام.
الحياة تسير، والمواقف السعيدة والحزينة تمضي، والطريقة المُثلى هنا هي أن نتقبل مرور كل موقف ووقته المحدد.
وهنا - وبغض النظر عن الألم - تكمن أهمية التخلص من الذكريات القديمة. تحرك، أعط الكثير من ذكرياتك العتيقة لدور الأيتام، أو قم ببيعها أو التبرع بها. وافسح الطريق للذكريات الجديدة. دع الحياة تسير في طريقها وافصل نفسك عن الماضي القديم البعيد المنتهي.
الحياة ليست لعبة مدروسة الخطوات ومعدة مسبقاً، ففي بعض الأحيان قد تربح الجولة، وفي أحيان أخرى قد تخسرها. لا تتوقع دائماً مقابلاً لأفعالك. لا تتوقع دائماً أن تُقدّر جهودك، أو أن تُثمّن عبقريتك، أو أن تُكتشف. لا تتوقع دائماً لحبك العميق أن يُفهم.
توقف عن تقليب القنوات، وتكرار مشاهدة برامجك الخاصة يوماً بعد يوم. تلك البرامج التي تُذكّرك بمقدار معاناتك ومدى ألمك من الفقد، فهذا التصرف سيسمم حياتك أنت وحدك ليس إلا.
لا شيء أخطر على النفس البشرية من عدم تقبل انكسار العلاقات العاطفية وانتهائها، وعدم تقبل خيبات الأمل ونكث الوعود. فلا يوجد تاريخ محدد لاتخاذ قرار بدء الانطلاق من جديد، ولا يوجد لحظة مثالية لذلك.
قبل أن يبدأ الفصل الجديد، على الفصل القديم أن ينتهي. قل لنفسك ما فات مات ولن يعود أبداً، وتذكر أن هناك وقتاً كنت تعيش فيه من غير تلك الذكريات أو أولئك الأشخاص، فلا شيء في هذه الحياة غير قابل للاستبدال، والاعتياد على أمر أو شخص معين لا يعني الحاجة.
قد يكون هذا الكلام شديد الوضوح، وقد يكون صعباً، لكنه في كل الأحوال مهم. إغلاق الحلقة أو الفترة الزمنية هو ليس كبرياءً، وهو ليس لعدم القدرة على الاستمرار، كما أنه ليس غطرسة.. ولكن، وبكل بساطه، لأنها لم تعد تناسب حياتك ولا تصلح لك.
أغلق الباب، غيِّر رسالة الرد الآلي، نظِّف بيتك، انفض الغبار، وتوقّف عن كونك من كنت، وغيّره إلى من أنت الآن!
انتهى مقال الكاتب، وفكرت كثيراً فيما قرأت، وها أنا أستخلص الحكمة، وأقول لك عزيزي القارئ:
أغلق الباب بهدوء، فقد انتهت الفترة الزمنية المخصصة، وعليك العبور إلى المرحلة التالية.. توقّف عن عرض أحداث حياتك، وبخاصة الأليمة منها، كف عن السماح لها بطعنك وتنغيص أيامك، وتمني لو أنها لم تحدث أصلاً..
انتهى هذا الفصل من حياتك... أرجوك اقلب الصفحة.
الرياض