على الرغم من وفرة وسائل القراءة، وتراكم كميات المقروء ونوعيته، تبقى الحقيقة أن لا توافق أو تناسق بين واقع كميات المنشور وبين واقع أعداد القارئين, بمعنى لا تواز البتة بين المادة المتاحة للقراءة وقارئيها، هذا من جانب، حين يستبعد عن المقارنة النوع والأهمية والاختصاص أو الميول، فكيف إن وضعت المقارنة بينهما وهي الأهم والمحور؟.. ولعل هناك أسباباً منها على سبيل المثال وليس الحصر منها أنظمة الاقتناء، فإن شاء الفرد اقتناء أوعية قراءاته فهي قد تتلبس بأسباب تعيقه عنها، فإن أتيحت فأسعارها قد لا تخضع لدخله، وإن خضعت قد تكون من الطبعات النافدة، أو الممنوعة، وقد تتاح في المكتبات العامة أو المؤسساتية التي لا يتيح نظامها اقتناءها، ويحصر قدرته على قراءتها في مواعيد محددة أو وفق شروط أنظمتها، وفيه ما لا يجعله يتعامل معها كما لو إنها كانت بين يديه في بيته وخلوته، كما إنها قد لا تكون متاحة كما سواها في المنفذ الإلكتروني بسرعته وإمكاناته الفسيحة والمدهشة.. هذا جانب وجانب آخر, قد يُعثِّر التوازي بين كمية المنشور وبين عدد المستفيدين منه ما يرتبط بالقارئين أنفسهم، فهم إما منصرفون عن القراءة الجادة، لا باهتمام، ولا بأهمية ولا باختصاص، ولكثرة ما ينشر حين يتاح لهم، فإن اختطاف مضمونه, والوقوف على محتواه قد لا يتعدى قراءتهم فهرس موضوعاته, ومن ثم انتقاء الجزء منه دونه كلية،.. كل ذلك من هموم المادة القرائية وقارئيها، وقد خاض الكثير من المهتمين في شأن بل شئون مماثلة.., لكن تبقى نقطتان ذاتا أهمية بالغة في الموضوع، وهي من حيث المنشور من مادة للقراءة فقد تفاقم أمر نشر الهزيل والسطحي والهامشي وبات أمر العناية بذوق فئات القارئين كلهم ضرباً من المستحيل..
لذلك يكون البحث عن الجيد غوصاً في طحالب وطمي، ولا ينقذ من ذلك قوائم تقدمها معارض الكتب حين تكون أوسع الفرص في كتيبات, وفي فهارس تعرض على أجهزة الكمبيوتر لإتاحة الاختيار، لأن أحداً لن ينكر أنه حين يدلف من بوابة معارض الكتب، فإنه كالمفقود داخلها، وحين يغادرها فكالمولود، وغالباً ما ينتقي بناء على سمعة أشاعها جمع مع.., أو حرض دونها جمع ضد.., لذلك قد لا تكون هناك أية مصداقية لما تقرأه عن كثير من المتاح للقراءة بفعل مؤثرات «الجوقة» من المطبلين مع أو الناعقين ضد،.. الجانب الثاني انصراف نسبة كبيرة من المقتبلين في العمر وناشئة المجتمع ممن تتطلب الحياة لمتانة أبنيتهم المعرفية عن القراءة.., فلماذا..؟ لأنهم في الواقع لم يدربوا عليها، ومن ثم لم يتعودوا على كَبَد الإنكباب على القراءات الجادة، فاختياراتهم بالتالي تأتي بمثل أبنيتهم ضحلة وهزيلة وهامشية، من هنا ارتفعت نسبة المثقفين غير المثقفين، والمتفوهين بما لا يعرفون، والذين إن تحدثوا وإن هم يحملون درجات علمية فإنك تلتقط ثغراتهم وتتكشف عورات معارفهم بسهولة.. فكيف لمن لم يخضع للتجارب المعرفية إلا في حدود؟.
إن أمر المادة المقروءة من الحاجة الملحة بمكان، ليصبح شغل المؤسسات العلمية والثقافية والأدبية، كذلك أمر القارئين ودربتهم واهتمامهم من الشأن الملح بمكان ليصبح شغل المؤسسات التعليمية وأرباب التنشئة وشاغلهم. فلا تذهبوا مع تيارات العجلة فيذهب لبابكم، وتبقى قشوركم.