غادر أستاذنا محمد صلاح الدين أحد مستشفيات جدة.. إثر شفائه من عارض صحي.. تحسّن ولله الحمد من آثاره.. ولمن لا يعرف «أبا عمرو» أقول بأنه من أوائل من امتهن متفرغاً مهنة الصحافة، حيث عمل في جريدة الندوة.. ثم جريدة المدينة التي حلّق بها قبل أكثر من أربعة عقود، حينما كانت الإمكانيات الفنية والمادية محدودة جداً.. واحتلّت المدينة، التي أدار تحريرها لسنوات عديدة بكفاءة ومهنية عالية، المقدّمة في سباق صحفي كانت المنافسة خلاله لا يستهان بها.. ولقد عملت مع كوكبة من الزملاء تحت رئاسة هذا الرجل الذي لا يشعرك بأنه رئيس لك.. يصدر الأوامر لتطاع.. وإنما يعطي مساحة للمناقشة والإقناع والتوجيه.. ولذا فأنا شخصياً مدين له بتعلُّم الصحافة المنافسة التي وقودها التحدّي والجهر بالحق بجرأة عاقلة.. وأتذكّر مواقف عديدة أثناء عملي في مكتب جريدة المدينة في الرياض، حيث تردّدت أكثر من مرة في إرسال مواد فيها الكثير من الجرأة، فإذا هو على الهاتف يشجعني بأن أرسلها لتجد مكانها البارز، ولتجلب «للمدينة» مزيداً من الحرارة التي عرفت بها، ويتحمل هو جميع العواقب بشجاعة أدبية نادرة.
ومن صفات أستاذنا الجليل أنه فقيه يتعمّق في الجوانب الدينية والشرعية.. ولكنه لا يحب أن يظهر ذلك إلاّ عند الحاجة، وبالذات إذا وردت آيات أو أحاديث نبوية في غير مكانها في بعض المقالات.. ولذا فإنه يستحق بكل جدارة لقب «فقيه الصحافة السعودية»، أما صفاته الشخصية الفاضلة، فهي كما قال صديق مقرّب له.. «إنه إنسان يعيش في غير عصره» حيث العصر يندر فيه من يؤثر الآخرين على نفسه.. ومن يثق في الأصدقاء ثقة عمياء.. ولعلّ تلكما الصفتين أكثر ما سبب لأبي عمرو المتاعب.. وكلفته الكثير ولكنه لا يندم على ذلك ويستمر في شهامته والإجابة على طلبات أصحاب الحاجة بكلمته المعروفة «حاضر».
ورغم جدية الأستاذ محمد صلاح الدين الظاهرة والمعروفة فإنه مرح يدبّر المقالب.. ويتقبلها أيضا بصدر رحب.. وهذا الجانب يسأل عنه زميلنا الأستاذ محمد الطيار الذي كنت أشاركه العمل في مكتب المدينة بالرياض.. ونفرح حينما نتلقّى خبراً بأنّ الأستاذ محمد صلاح الدين سيصل إلى الرياض، لأنه سيشعل الحماس ويكسر الروتين اليومي في عملنا، حيث نصاحبه في لقاءات مع الوزراء والمسؤولين، كما نمضي معه وقتاً مرحاً في (فندق اليمامة) الذي كنا نجد صعوبة في إيجاد غرفة له.. ثم نطلب من الاستقبال الاتصال به بعد استقراره فيها ليشعره بأنّ عليه الإخلاء لخطأ وقع في إجراءات الحجز، لكنه يكشف مقالبنا دائماً..
ومن صفات أستاذنا الجليل عفّة لسانه، حيث يصمت حينما يخوض الآخرون في حديث يتناول أشخاصاً حتى من المختلفين معه في الرأي.. وهو على أي حال قليل الكلام في المجالس العامة إلا حينما يكون الكلام مفيداً.
وأخيراً: هذا هو محمد صلاح الدين الدندراوي.. متعه الله بالصحة والعافية.. جاد في حياته العملية إلى أبعد الحدود، حيث يمضي في مكتبه في الصحافة ثم حينما تفرّغ لعمله الخاص أكثر ساعات النهار.. دون أن يشغله ذلك عن القيام بالواجبات العائلية والاجتماعية والرسمية، لأنه منظم في وقته ودقيق في مواعيده.. وهو قبل ذلك وبعده طيّب القلب والمعشر، وصاحب قلم نزيه قوي في الدفاع عن دينه وأمته وبلاده.. ولذا فإنّ مقالاته التي ينشرها في جريدة المدينة ضمن عموده اليومي «الفلك يدور»، تتسم بالعمق والثقافة الواسعة والجرأة المحكومة بالعقل.. وهذا ما يميّزه عن غيره ويجعل «الفلك يدور» دائماً بكل ما هو مفيد ومميّز بشهادة الجميع.