(موقف 1) أجول ببصري بحثاً عن خاتمي علني أجده،... نبشت ذاكرتي ويالحسرتي فالبحث أرهقني وتسربلني التعب ولم يحالفني الحظ، تألمت لعجز ذاكرتي عن تذكر مكانه، ولكني متفائلة بمداعبة الآمال فغداً بإذن الله سأجده، فخاتمي يحمل في جنباته أجمل تفاصيل ذكرياتي، وبمرور أيام من البحث المضني عثرت عليه... فتخيلت نفسي لو كنت بلا ذاكرة كيف سأحيا !!عندها أحسست بمرارة مرضى الزهايمر وما يعانيه من ألم وحسرة ليسترجعوا ذاكرتهم المسروقة والمفقودة.
(موقف2) كان وياما كان في قديم الزمان شاباً فتياً مقداماً يبحث عن الرزق من أوسع أبوابه... متفائلاً ومتفانياً.. ينهض باكراً لكسب رزقه ليعول أسرته، كبر دكانه وتوسعت تجارته فالصدق والأمانة هم مفاتيح الرزق الواسع، بارك الله في رزقه لكونه منفقاً وأُعطي ما يتمنى المال والبنون. أصبحت ثروته تقدر بالملايين.. كبر شيخنا ومازالت تلازمه عاداته وعباداته، ذات صباح خرج للمسجد ليؤدي صلاة الفجر وحين هم بالرجوع لبيته صارت الطريق بعيدة مالذي جرى؟ كان يرد على نفسة ربما سلكت طريقاً آخر مشى شيخنا وأضناه المشي حتى غدا تعباً ومخيلته مليئة بالأسئلة (كيف ولماذا؟) في الجانب الآخر كانت عائلته تقرع أجراس الإنذار للبحث عنة فالشمس قاربت الزوال! وفق حفيده الأصغر في العثور عليه في الحي المجاور ليقفز عليه ويقبل جبينه ويديه فرحاً بملاقاته، برر لهم الشيخ الجليل غيابه بكونه بصحبة أحد الأصدقاء القدامى!
في اليوم التالي أراد شيخنا أن يلحق بصلاة الفجر وهم بالخروج ليطلب منه ابنه الأكبر أن يرافقه خادمه ليطمئن قلبه (فغضب كطفل) ومع إلحاح ابنه وافق مجبوراً، (مثل هذه القصص كثيرة التي نسمع فيها أن فلان خرج ولم يعد)!
هؤلاء الزهايمريون يتأملون الوجوه باستغراب وتعجب أين أنا؟ من هذا الشخص الذي يهتم بي؟ يتخبطون ويستشيطون غضباً ويصلون لحافة الانهيار والجنون (وقلما يجدون لهم متكاءً إلا من رحم ربي!) كيف قضى هذا الصرح العظيم الذي حوى أرشيف حياته بحلوها ومرها حتفه!
شعرت بغاية ملحة للبحث في غمار هذا الحقل المنسي والمهمل بعد أن أصبح الزهايمر وحشاً يتربص بمن نحب ليصبح هذا الغالي ذكرى إنسان وبلا هوية أو زمان؛ فبعد أن كانت تشد له الرحال للقائه والسلام عليه، أصبح ماضياً أو بحكم الأموات بأمر زهايمر النسيان! تخيل نفسك وأنت تصحو على عالم لا تنتمي إليه! ومن هذا الذي يوقظني (أين أنا)؟ شعور رهيب ومؤلم أن تذوب ذاكرتك كالجليد؟ من سرق أيامه وذكرياته؟ سنين عمري وأيام الصبا والحب والكفاح القوة والحكمة.. الهيبة كلها استباحتها جيوش الزهايمر لتفترسها في معاقلها بلا رحمة وغير مراعية لحقوق الإنسان لتقبرها في مقبرة النسيان الأبدية... أفكاري تائهة، خطاي متعثرة، بكائي أنين أسمع صداه في فراغ حياتي!
(وكأن لسان حاله يقول خذوا كل شيء وأعيدوا لي ذاكرتي وذكرياتي)
فالزهايمر لمن لا يعرفه سمي بذلك نسبة للطبيب العصبي والنفسي الألماني (ألويس الزهايمر) الذي شخصه عام 1906 فقد بدأ هذا المرض مقلقاً بظهور بوادره على سن 65 فما فوق !
وهو مرض عصبي يصيب المخ ويؤثر على وظائف الذاكرة مما يؤثر سلباً فتدهور معه اللغة والذكاء والتفكير والسلوك، أما أسبابه فلا تزال مجهولة للطب والعلم!
من أهم أعرضه فقدان مفردات اللغة والقدرة على الكتابة والقراءة وعدم تذكر الأسماء والوجوه والمواقف والأماكن وتقل الحركة نسبياً بمعنى يفقد مهارات التواصل الاجتماعي، وطبيعي أن يكون لمريض الزهايمر ردة فعل قوية (مقهور) كاللعصبية والعدوانية والاكتئاب.
فهذا المرض الفتاك والخطير والذي يسرق منا هويتنا ويفقدها الإحساس بالذكرى بحلوها ومرها... ما زال العلم والطب بكل أسف عاجزين أمام هذا الزهايمر العملاق المفترس للذاكرة بلا رحمة...إلا أنهم أوصوا بالغذاء المتوازن غير المشبع بالدهون والمشي الصحي!
ولكن لعلماء الدين الإسلامي رأي مختلف في علاج الزهايمر بالقرآن الذي هو خير حافظ لمن حفظه وتدبر معانيه وعمل بها، فالحافظين للقرآن قلة هم من يصابون بالزهايمر لأن القرآن يزيد من نشاط الذاكرة ويقويها.
وأخيراً.. لو قدر لهذا الإنسان وعادت له الذاكرة هل يحفر قصة حياته في الصخر كي لا ينساها؟؟؟ أم يسميها زهايمر كما رواها غازي القصيبي، أم نسيان دوت كوم كما سمت أحلام مستغانمي قصصها المنسية؟؟
أبعد كل هذه السنين المليئة بالصبا..المرح والتعب..الفشل والنجاح.. الضعف والقوة... ااه يالذاك الحب الممزوج بالضحكات والدموع والآهات كل هذه التضاريس المحفورة في القلب والعقل معاً تمحوها في لحظه غفلة وضعف (وانكسار ذاكرة)... أتت عليها عاصفة الزهايمر الهوجاء!
(يالهزيمتي)
حفر الزهايمر قبراً ليدفن ذاكرة ومعها بقايا إنسان وليخلف وراءه ذكرى إنسان مجرد من حياته.. يتأمل ذاكرته العارية الأمن هذا الألم (مهزوم هذا الإنسان)!
تراجع عن المضي قدماً في حياته ليبقى مسجوناً داخل ذاته!... بعد أن غطاه غبار النسيان.
ما زالت جروح الزهايمرين تندح ألماً وحسرة ولكنها لا تطيب فلنكن أصدقاء لذاك الإنسان كل يوم نزوره ونشد من أزره ونروي له حكاية هي في نظره غير مع أنها نفس حكاية الأمس!
لنقترب من مرضى الزهايمر سواء من العائلة أو بجمعية أصدقاء الزهايمر لنصلهم بالحب والعطاء ولنرحم عزيز قوم ذل.
لندن