لم يكن الشاعر الوجداني عبدالله بن حمود بن سبيّل اسما عابرا في سماء الأدب الشعبي بل كان علما ورمزا من رموز هذا الفنّ بل إنه الشاعر الذي صعد إلى قمّة شعر الغزل وتربّع عليه دون منازع. فابن سبيّل الذي عاش في هجرة صغيرة في وسط منطقة نجد (نفي) والذي تناقلت أشعاره الألسن وسارت بها الركبان في زمن لم يكن للإعلام غير الموجود آنذاك أيّ دور في تلميعه ونفخ صورته بل إنه إبداعه الذي نثره من خلال موهبته الفذة هو ما جعله أسطورة الشعر العاطفي والوجداني وما زال صدى أشعاره يتردد في سماء الإبداع.
أقول قولي هذا بعد أن قرأت ما خطه قلم الأستاذ (عبد العزيز القاضي) من خلال موضوعه الشيق الذي عنوانه (الشعر النبطي بين الجمال والخلود) حيث أورد فيه رأيا ذكر أنه للشاعر (ضيدان بن قضعان) ومفاده (أن شعر ابن سبيّل وابن لعبون والسديري لا يعد إبداعا وأنهم لو عاشوا في وقتنا هذا لم يكن لهم أي شيء يذكر) ثم أردف (بأنه لو عرض عليه جميع دواوينهم مقابل قصيدة لنايف صقر أو فهد عافت لاختار القصيدة وترك تلك الدواوين) والحقيقة أنني لم أستمع لذلك الرأي ولم أسمع به ولكنني سوف أعلق بناء على ما ذكره القاضي.
بداية لابد من القول بأن (ضيدان ابن قضعان) من الشعراء المميزين وهذه حقيقة لا يمكن إغفالها، الأمر الثاني أنه لابد من الفصل بين (القولين) وسأبدأ بالرأي الأخير وهو وقوله (لو عرض عليه دواوين اولئك الشعراء مقابل قصيدة لنايف أو عافت لاختار القصيدة) لأن هذا لا يحتاج إلى استطراد فهو حقّ مشروع له ولغيره ويدخل ضمن الذائقة الخاصة ولكل شخص الحق في (تذوق) و(استمزاج) ما يروق له وما يلائم إحساسه، وهذا يندرج ضمن حريّة الرأي والذائقة الشخصيّة ولا خلاف على ذلك. فحينما يقول شخص: إن فلانا من الشعراء المعاصرين أفضل عنده من (المتنبي) فليس لنا أن نجادله لأن هذا حقّ مشروع وكما يقول الشاعر (وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولكن في نفس الوقت لا يمكن القبول بأن يقول بأنه لو عاد الزمن بالمتنبي فلن تجد من يسمع له ولن يجد له مكانا لأن ما يقوله ليس إبداعا وهذا ما سنتوّقف عنده من المقولة الأولى التي ذكر فيها ابن قضعان (بأنهم أي ابن سبيّل ورفاقه لو عاشوا في هذا الزمن لم يكن لهم شيء يذكر وأن ما قالوه لا يعد إبداعا) حيث اختلط هنا العام بالخاص والذائقة الشخصيّة بالحسّ النقدي وهذا ما ضمنّه (القاضي) في ثنايا موضوعه حيث كتب بحسّ الناقد والراصد والمتابع ولم يكتب كلاما إنشائيا تسوقه العاطفة أو الرغبة والميول وذلك من خلال تركيزه على فرضية (البقاء والخلود) التي ضمنها حيثياته وكانت كفيلة وكافية لدحض ذلك الرأي دون البحث عن هوامش أخرى لأنه من السهل إطلاق الرأي ولكن الصعوبة تكمن في تعزيزه بالحجة والبرهان ومقولة (ابن قضعان) هشّة ولا تعبّر عن واقع الحال الذي يقول: إن (ابن سبيّل) ظاهرة شعرية خاصة وأنه برغم غيابه الأبدي فقد ظلّ الغائب الحاضر في سماء الشعر العاطفي ولم تطوه عجلة الزمن ولم يدخل دائرة النسيان. والنقطة الأهم في هذا أن الزمن لا علاقة له بالإبداع فابن سبيّل لم يرتبط إبداعه بزمن معيّن ولكنه فرض ابداعه في زمنه واستمر هذا الإبداع يتردد صداه حتى وقتنا الحاضر مثله مثل الكثير من المبدعين في أزمان مختلفة والذين ما زالوا محافظين على مكانتهم وحضورهم في شتّى ميادين العلم والمعرفة والفنّ رغم غيابهم الأبدي، وهذا دليل على أن الإبداع لا يرتبط بزمن معيّن وأن الإبداع ثمنه الخلود والخلود دليل الإبداع.
و الأمثلة على ذلك كثيرة فما زال صدى صوت (المتنبي) يتردد في سماء أدبنا رغم مضيّ قرون على قوله:
انا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
و ما زلنا نردد في كل عيد بيته الذي لم يستطع أي شاعر بعده أن يمسحه من الذاكرة أو يلغيه من تلك المناسبة حين يقول
عيد بأية حال عدت يا عيد
لما مضى أم بأمر فيك تجديد
و هذا هو حال المبدعين دائما ما يكونون حاضرين في كل زمان ومكان والإبداع هو الذي يضيء النص ويخلده في الذاكرة والمبدع قد يزداد توّهجا، وحينما تتاح له آفاق معرفية جديدة فهذا الشاعر (علي بن الجهم) القادم من الصحراء يقف أمام الخليفة مادحا ليقول
أنت كالكلب في حفاظك للودّ
وكالتيس في قراع الخطوب
حيث أدرك الخليفة أن خشونة الصحراء هي ما صبغ شعره بهذا الطابع لأن الإنسان ابن بيئته حيث عاد بعد أن عاش في(بغداد) فترة من الزمن بعد أن خلع رداء الصحراء وبهرته المدينة بأضوائها وسحرها ليكون أكثر رقّة وعذوبة ويقول رائعته الشهيرة:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وبدون شكّ فإن ابن سبيّل حاله حال اولئك المبدعين فلو أنه حضر في زماننا هذا فلربما كان حضوره أقوى علما بأن محبي ومتذوقي هذا الفن ما زالوا يرددون الكثير من الأبيات التي أطلقها هذا المبدع حيث رحل وترك تلك الأبيات صامدة وباقية تحركها الألسن وترددها كأمثلة في الكثير من الأمور الحياتية مثل قوله:
لا تاخذ الدنيا خراص وهقوات
يقطعك من نقل الصميل البرادي
لك شوفة وحدة وللناس شوفات
ولاوادي سيله يفيّض بوادي
وكذلك قوله
شرهه يدي ما كل عود تعصاه
ولا هي على عوج العصي محدودة
المطرق اللي يلتوي وين ابلقاه
عيني لها طفحة ونفسي شرودة
وغيرها الكثير والكثير من الأبيات الجميلة والعذبة التي لا يتسع المجال لذكرها.كم من الشعراء رحلوا وكم من الشعراء حضروا ويظل (ابن سبيّل) هو الغائب الحاضر والعلامة الفارقة في سماء الشعر العاطفي الذي يلامس الوجدان والشعور إنه شاعر كل العصور.