لم نعتدْ خطابات الشكر في معهد الإدارة، وإذا حصل مرةً فحدثٌ يؤرخ به، ويذكر أنه بعث تقارير تقويم أداء موظفيه للمدير العام الدكتور محمد الطويل فرد عليه بورقة الإحالات الداخلية: (لا يراك اللهُ إلا محسنا)، وفهم الإشارة لكنه شاء العبارة ؛
فقابله في مكتبه وشرح له أحقية شباب « الطباعة والنشر « بتلك التقديرات العالية، لكن» أبا غسان» واجهه بمنطقٍ آخر ؛ فشعور الموظف بالتقصير وعدم الرضا سيحفزه لمزيدٍ من الإنتاج، وحين يطمئن لواقعه يسترخي ويتثاءب.
رؤيةٌ قد نختلف معها في جدليةٍ احتماليةٍ قابلة لأمثلة متضادة يَصدق في بعضها هذا الحكم ويصدق في غيرها حكم مقابل، وربما حققت نتائجَ إيجابية مع بعضٍ وسلبية مع آخرين ؛ ليبقى التحدي منطلقًا للنجاح على أصعدة الأشخاص والتنظيم والأمم، ومن يظن أنه وصل فقد انتهى.
وربما يذكر مجايلونا نكتة « الأفضل في الشرق الأوسط « التي لازمت إعلامنا فترةً طويلة من الزمن حتى كدنا ننخدع لها، ثم استيقظنا فإذا مَن كنا نراهم الأضأل باتوا الأكمل، وعشينا بوهم التفوق الهلامي الذي لم يره سوى مروجيه، ونوشك نقول: إنهم قد جنوا على مسيرة الوطن المتطلع للوثبات وليس للثبات، والمشكلة أننا نمجد ذواتنا في الوقت الذي ننتقص فيه من سوانا ؛ فأن أكون الأفضل يعني أن غيرنا الأقل.
لأحلام الوهم جمالُها دون ريب لكن عاقبتها خدرٌ لذيذ يُشعرك أنك في السطح مع أنك في السفح، وكم تكون اللذة أكبر لو جاء النقيض، والمُساءلُ ليس المنتفعَ من التطبيل بل المطبلون أنفسُهم الذين يكفيهم أن تظهر صورهم وكلماتهم ولو كانت مَلُوكةً بتكرار يثير الغثاء والغبار.
ودون مواربة أو مواراة فهناك منتفعون من المديح «غير المبرر»، وربما تلقوا مكافآت وامتيازات، لكن المسؤول الواعي يلفظهم مثلما يرفضهم، وقد يُوجع الانتقاد حتى الظالم فيه لكنه يشير إلى المسار بخطوطٍ عريضة تتفادى الخلل موجودًا ومفترضًا.
ومن يقرأ الرأي العام يلحظ انفضاض الناس عن تقارير الثناء المبالغة، وربما مرت إنجازاتٌ لا تجد من يلتفت إليها لغلبة التشكك في مرامي من بثها ومن علق عليها، وتبقى الحقائق والوثائق المجردةُ من الحواشي طريق الصادقين، أما ادعاء الإحصاءات والنسجُ على أرقامها دون الخضوع للمعايير العلمية في بنائها فتجهيل يتجاوز الجهل.
تجيء تجارب القطاع المؤسسي الخاص قنطرة بين اتجاهي المدح والذم المطلقين ؛ فلا مكان - في معظمه - لحرق البخور على مشروعات غير مكتملة، ولا الإبقاءِ على مسؤولين غير جديرين، والأسوأُ في الإدارة الحكومية كما الفردية اكتشافُ الخلل بمناظيرَ مكبرةٍ حين يتغير القيادي ويأتي خَلَفُه ليوقظَنا على أن ما تم في الماضي غير ذي جدوى، ثم لا يُحاسب القائل والقول والمقول عنه.
استطالت المشكلة فامتدت لبعض المؤتمرات العلمية التي تقبل أوراقًا وبحوثًا إنشائية مستظلة بلجان تحكيم ؛ ما يخلط العلم بالدعاية والإعلان، وتعجب من بحوثٍ ممتلئةٍ بالتوصيف المستدر للتصفيق، وكان حقها أن تقرأ الفشل وتحدد الخلل وتخطط للتطلع، ومؤسف ٌ أن يوظفَ العلم في الدعاية كما في مشروع السلامة المرورية الذي لم يكد يطبق حتى تواترت المعلومات الميدانية عن انخفاض الحوادث مع أن الدراسات الإحصائية لا تعترف بالأحكام الانطباعية والمتعجلة ؛ فالرقم يقارنه رقم مماثل في شهر مماثل لعدة أعوام مع تحديد الثوابت والمتغيرات، والنماذج من الواقع الإعلامي والإداري والثقافي والأكاديمي تطول، وويل للمصدقين.
ليتنا نعرف أنفسنا بأخطائنا قبل مزايانا وبخطايانا دون حسناتنا لنرفعَ في وجه من يمدحُنا بما ليس فينا علامةَ تخطي ضياء الحق إلى عَتَمة الضلال والإضلال.
العدل تقوى.