ما بال الناس قد انصرفوا عن أن يعلموا أبناءهم الدعاء، على أن يدربوهم على بناء العلاقة الشفيفة بربهم تعالى، الذي خلق نفوسهم، وأوجدهم دون أن يسألوه، وكرمهم بنعمة الإسلام، والعقل والتدبر، وأحاطهم بلطفه في ظلمات ثلاث، حتى إذا ما شب واحدهم لم يجد من يدله إلى أبواب القرب منه تعالى، من هو أقرب إليه من حبل الوريد،.. فهم يتعلمون من الصلاة حركات أركانها، أما الإحساس بها، وتهيئة الروح للخضوع فيها، فلا يدربون على ذلك، كما يُحب أن يكونوا عليه في مقبل أيامهم، ومن التدبر فيما يقرأون من القرآن فيها، والدعاء ، والجلوس له بعدها، فهم لا يعرفون من الدعاء إلا ما يسمعون منه, حين يردهم من أي صوب.., كما أنهم لا يَثْقفون بأن الدعاء لسان صلتهم به تعالى، في خشية، ورجاء، وطاعة، وخوف..، كذلك لم تزرع في قلوبهم بذور الاطمئنان، للحظة تكنفهم متعةِ الأنسِ بتقربهم به من ربهم تعالى، وهو الذي قال في محكم كتابه: «إن الله لا يعبأ بكم لولا دعاؤكم»...
ولئن جاءت هذه الآية في مناسبتها.., إلا أن مناسبات الحاجة إليه تعالى قائمة ما نبض خافق، وما تعاقب الليل على النهار..
ففي كل الدروب مغروسة لهم رؤوس الشياطين، حصانتهم بالدعاء..
فالحياة بين نار وماء، وشر وخير، والنفس مطواعة للشهوات إلا من رحم ربي..
فلئن كانت أهداف المربين أن يتعلم أبناؤهم ما يزيد في وعيهم، ويقوي من معارفهم، ويوطد حصانات خبراتهم ليكونوا الفاعلين في بناء السعادة للبشرية، فإن أمرا لا يبرم بعمل المرء وحده, دون مشيئة الله تعالى على الإطلاق.., فكيف إن تقربوا إليه بالرجاء، ووقفوا عند بابه بالدعاء، وعرفوا كيف يسترحمونه تعالى بأحب سلوك عباده في عبادتهم له، حين يتعلم الواحد منهم، فيعلم أن له ربا رحيما، يسمع الدعاء، ويغفر الذنوب، ويلطف بالأسباب، ويقضي بالإجابة..؟
فكما ينشدون من الثقافات، تدريب الأفراد على ثقافة الحوار، والسلام، وتقبل الآخر, والإتقان، وإجادة العمل,...و....,
فالله الله بثقافة الدعاء..، مفتاح الخير والأجر والنصر والستر والعفو وحسن الختام، والنجاة في الآخرة من زلات الأولى.. وتحديدا تعويد الصغار مع اللبان عليها..
وتلك المسؤولية الأكبر،..
فكم من دعاء في سجود حنت له الأرض..؟ كما تحن لحدائه العيس في البيداء ؟، ولابتهاله الطيور في الأوكار، وكم خرت له جوانح الجبابرة، وتفقَه به البالغون في السؤال من العلم...؟ وتمكن ذو الغاية به من غايته في مرضات ربه..؟
وكم من الدعاء غُفرت به الذنوب كما ورد في الكتاب العظيم..؟
وكيف سكبت به العيون، وحنيت به الصلاب الشداد..؟
كم من الدعاء فتحت به الأبواب، ونصرت به الأحزاب، وتقدمت به قوادم المتأخرين..؟
الدعاء باب للنجاة، كما هو باب للعلم والفلاح، يستزيد به المرء من الله علما، ويستنفع بما بلغه به من فضله تعالى..
به ركع، وسجد، وأضحى, وسهد، رسول البشرية صلى الله عليه وسلم، وعلى خلفائه الراشدين رضي الله عنهم, وآل بيته الأكرمين غفر الله لهم, وكل صحابته ومن تبعهم، فلم يتناسَ، ولم يغفل، ولم يُصخ، ولم يجهل، ولم ينم، ولم يهمل، ولم يُرجئ، ولم يكسل، وهو نبي كريم، مختار موعود بالجنان، لكنه عبد شكور... عند الشدائد مكَّن له الله تعالى مفاتيح الهدى، وفي الرخاء زاده فبسط له الآماد، وشد عضده بالصالحين من العباد، فعلم، ونشر الرسالة السماوية، فمكن الله تعالى الإيمان به في الصدور...عونا لرسوله الأمين، القريب بدعائه، وطاعة له تعالى.
أوليس هو الداعي بالعفو والمغفرة.. فأكرمه الله تعالى بالإجابة، وأطلعه بإسرائه له على الجنة، قبل أي من خلقه، وقبل الموت، والبعث، والنشور..؟..
أليس هو من سأل ربه الثبات، لأنه مقلب القلوب..؟ ولم يركن للأمل، ولا لنبوته عليه الصلاة والسلام..؟
أوليس الأمين الصديق، ثاني اثنين إذ هما في الغار، من قال له : «لا تحزن إن الله معنا», لم يركن لدعة الاطمئنان برضاء ربه عنه، فأقام الليل، وأمضى النهار بلسان ذاكر تائب مستغفر..؟ لم يأمن مكر ربه تعالى وإن كانت قدم له في الأرض، والأخرى في الجنة..؟
فمن يبلغ هذا الشأو منا ؟.., من يضمن رضاء الله عنه ؟, وعدم سخطه عليه ؟, من يؤكد طهره من الآثام، والأخطاء ؟.., والسهوات والغفلات..؟.. من يثق في خلوه من غروره بالدنيا, وما فيها..؟
أليس إنسان العصر ساهرا يفكر في رزقه..؟، ومصبحا لعمله يتدبر زيادته..؟..,
أليس الإنسان مشغولا بنفسه.., متكئا على أمله..؟ منتظرا لساعته الآتية ليفرغ لفرض فاته..؟ أو لواجب لم يؤده..؟ أو لصدقة مرت به الأيام دون أن يتدبرها..؟ أو لوعد بالتمهل في صلاته فلم يفعل..، وبإسباغ لوضوئه فلا يزال يستعجل.., ولبذل في طاعته فأخذته سهواته, ومشاغله واستسلم لأمله..؟
فكم منا علَّم أبناءه كيف يحققون أحلامهم بأعمالهم، وأعمالهم بدعائهم..؟
كم منا مكَّن في نفوسهم تقواها بالمتابعة، والاصطبار عليهم، وجعل الدعاء مفتاحها..؟ وبذر في وجدانهم الخشية والرجاء، والأمل مع الخوف، وربط في أذهانهم أن الجواب مع الدعاء..؟..
مهمة كبرى، صعبة يسيرة، معقدها الثقة في عون الله، ومفتاحها الشعور بالمسؤولية والأمانة.. والصبر عل أدائها.
مع أننا جميعنا بشر خطاؤون، لكنه ربنا القريب المجيب، المتقدم بفضله على تأخرنا بقصورنا..
فالدعاء وجاء، والدعاء رخاء، والدعاء رحمة، والدعاء عبادة، فعلموهم الدعاء.. دعاء الخير.. لا دعاء الشر.. دربوهم على أوقاته ومنازله, ليُفتح لهم باب الخير، ولا يغلق دونهم.. فالحياة لن تغني عن الآخرة، ولن يجدي نفعا في الغد، ما أغفل في اليوم.