قبل أسبوعين أعلنت أرقام الميزانية، وهي أكبر ميزانية في تاريخ البلاد، وهذا مؤشر مُطمئن يدل على أن هناك نمواً تتزايد وتيرته كل عام؛ غير أن هناك كثيراً من الشكاوى التي تتحدث عن أن أرقام الميزانية لا تهتم بتنمية بعض المناطق من الناحية الإنتاجية، فما يصرف على هذه المدينة أو القرية أو تلك لا علاقة له بمدى مشاركتها في الناتج الاقتصادي المحلي، أو أنه لا يحفز أهل هذه المنطقة على العمل الإنتاجي، وبالتالي تتحول هذه المدينة أو القرية إلى (عالة) على الاقتصاد لا إلى مصدر من مصادر إثرائه. خذ مثلاً كثيراً من القرى والهجر التي تعج بها صحاري وجبال المملكة، تجد أن دخل سكان هذه المدن أو القرى يعتمد على الدولة من خلال الوظائف، وتضطلع الدولة مباشرة بكافة الخدمات على مختلف أنواعها؛ أي أن دخل الأفراد فيها يعتمد على ما يتم صرفه من قبل الدولة مباشرة؛ وفي المقابل فإن مساهمتها في ناتج الاقتصاد المحلي، إذا استثنينا ما تصرفه الدولة، يكاد أن يكون صفراً أو أعلى من الصفر بقليل. وهذا يعني أن هناك هدراً حقيقياً للثروة الوطنية دونما عائد على اقتصاد البلاد؛ أي أنها في المحصلة النهائية (تنمية) بلا مردود؛ إضافة إلى أن بلادنا تئن الآن من البطالة، وتتفاقم أرقامها باستمرار، كما نعاني من هجرة متزايدة من الريف إلى المدن الكبيرة، وما تشكله هذه الهجرة من تحديات أمنية واجتماعية خطيرة على النسيج الاجتماعي في تلك المدن، وسوف تستمر هذه الهجرة إلا إذا خلقنا فرص عمل حقيقية في الأرياف تجعل سكانها يجدون فيها أعمالاً تغنيهم عن الهجرة إلى المدن، وفي الوقت نفسه تساهم في التخفيف من ضغوطات البطالة، وتجعل من هذه التجمعات السكانية في الأرياف مصدر إثراء للاقتصاد؛ وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا تحوّلت هذه البؤر السكانية في الأرياف من كونها (تكلفة) على ميزانية الدولة إلى مصدر (إنتاج).
مردود مثل هذه القرى أو الهجر المنتشرة في المناطق الشاسعة على الاقتصاد يكاد أن يكون صفراً. بينما أن تكلفتها على الاقتصاد باهظة؛ ففيها تجد بنية خدماتية كاملة: الطرق، الكهرباء، الماء، الهاتف، الخدمات الأمنية، المدارس، الخدمات الطبية، وغيرها من الخدمات؛ وفي المقابل لا يوجد لها أي مردود اقتصادي. لذلك فإن توجيه بعض الأنشطة الاقتصادية أو التعليمية إلى هذه الأرياف، بدلاً من المدن، وخلق نوع من الحوافز والمعونات التي من شأنها تشجيع مثل هذه الأنشطة، سيكون له عوائد اقتصادية وكذلك اجتماعية، كما سيكون للصرف على البنية الخدماتية الموجودة في هذه الأرياف له ما يبرره بدلاً من أن نصرف عليها دون مردود يذكر.
أعرف أن تنمية الأرياف في أغلب دول العالم تعتمد على الزراعة، وأعرف أننا نواجه مشكلة خطيرة في نقص المياه الجوفية بشكل يجعل من التوسع في التنمية الزراعية أمراً قد تعيقه مثل هذه العقبة الكأداء، غير أن بالإمكان تنمية الأرياف من خلال مجالات أخرى، كالصناعة المتخصصة مثلاً؛ أو تقديم خدمة التعليم المتخصص أياً كان توجهه، أو أي نشاط اقتصادي آخر يجعل لهذه القرى ما يُبرر وجودها. وإذا وجدنا أن هذه القرية أو تلك لا يمكن أن يكون لها أي مردود اقتصادي يتوازى مع ما يصرف على بنيتها التحتية الخدماتية من تكاليف، فيجب أن يكون لدينا من الجرأة ما يجعلنا نوقف الصرف عليها؛ لأن هذه النهاية سنصل إليها حتماً، فلماذا الإصرار على إنعاش ميت توقفت فيه كل وظائفه الحيوية، بينما أن من الواجب دفنه؟
إلى اللقاء.