اعتنى الملك عبد العزيز - رحمه الله - ببيوت الله عناية متزامنة مع الحرص على توحيد البلاد ولمّ شملها وجمع شتاتها، فاهتمامه - رحمه الله - بالمساجد كان اهتماماً مبكراً مع قلّة الموارد وشحّ الأموال، يقول الشيخ صالح العمري - رحمه الله - في كتابه علماء آل سليم وتلامذتهم وعلماء القصيم - جزء 2 - معلّقاً على رغبة الملك عبد العزيز في أن يبنى جامع بريدة على نفقته وذلك عام 1330هـ، يقول: «وهذا دليل اهتمام الملك عبد العزيز بالعناية بالمساجد منذ نشأته، ويوم كانت الدولة لا مورد لها إلاّ قليلاً مما تحصل عليه من الزكوات ونحوها «أ.هـ، واقرأ معي عزيزي القارئ هذا الخطاب الذي وجّهه الملك عبد العزيز في عام 1335هـ إلى الإخوان من كافة أهل المجمعة والذي أورده الدكتور صالح بن سليمان العمري في كتابه الملك عبد العزيز والعمل الخيري، يقول - طيّب الله ثراه - في خطابه: «من طرف القصر والمسجد وكّلنا عبدالمحسن بن دعفق يقطع من القصر الذي يكفي المسجد والباقي عقب المسجد يحط منه مدرسة للعيال يتعلمون فيها ويجعل منه دكاكين سباله على المدرسة والسقات ويقطع ما يكفي بستان للقليب يغرس والجميع كله على نظر عبدالمحسن ما لأحد فيه مدخال» أ.هـ. فالملك عبد العزيز كان حريصاً على عمارة المساجد وتشييدها، وعلى هذا الحرص يقول الدكتور محمد الشثري في كتابه «الدعوة في عهد الملك عبد العزيز» بقوله:» والذي يعنينا هنا أنّ بناء الهجر كان يسبقه تشييد المسجد ورفعه، باعتبار أنّ المقصود من هذه الهجر تهذيب النفوس وتربيتها، والمسجد خير وسيلة لتحقيق هذا الغرض» أ.هـ.
وفي عام 1350ه الموافق 1931م أمر الملك عبد العزيز بتجديد وتوسعة وبناء مئذنة لمسجد القبلتين في المدينة المنورة وإقامة سور حوله بعد أن تهدّم شيء من بنيانه مع مرور الزمن، وبلغت مساحة المسجد بعد التوسعة والترميمات التي أمر بها - طيّب الله ثراه - هذه 425 متراً مربعاً وقد سمّيت ب»التوسعة العزيزية» وكان المسجد قد وصف من بعض الرحالة - قبل أن يأتي أمر الملك عبد العزيز - ب «أنه مسطح مغطى بقبة وليس له مئذنة».
ويمتد الاهتمام منه - رحمه الله - للأئمة والمؤذنين بتوفير الأعطيات لهم وتأمين المساكن لهم قدر الإمكان، يقول الدكتور صالح العمري عند الحديث عن النماذج التي تبيّن عناية المؤسس بالأئمة والمؤذنين: «ومن النماذج كذلك الخطاب الصادر من الملك عبد العزيز - رحمه الله - إلى الشيخ عبد العزيز التويجري في صفر من عام 1367هـ، حيث يقول - رحمه الله -: «اجروا لمنصور بن عمران الذي عينا لأهل الأرطاوية يصلي بهم ويعلمهم أمر دينهم أربعماية وزنة تمر وما يتسن صاع عيش راتب له في الصيف والصفري» أ.هـ (الخطاب في 19-2-1367هـ وقد ورد وثيقة ملحقة في تقرير إدارة التعليم في المجمعة عن رواد التعليم في قطاع تمير، 1417هـ)، ومن النماذج الأخرى من اهتمام المؤسس بالمساجد والعناية بها كتابه الذي بعث به إلى محمد بن ضرمان ومحمد بن مرضي في وادي الدواسر يطلب منهما بسط الصورة الحقيقية عن أحد المساجد القائمة هناك وتقدير حاجته للدعم، حيث يقول الملك عبد العزيز في خطابه لهما: «... ذكر لنا خلف ابن قويد وجماعته أن مسجدهم ضيق عليهم ويحتاج إلى زيادة مصباح، فأنتم إن شاء الله تشوفون وتعرفوننا بالحقيقة...» (انظر أرشيف الوثائق الوطنية، وثيقة رقم 1984)، وما أن علم الملك عبد العزيز بحقيقة المسجد وحاجته للمساعدة حتى بادر في إصدار أمره البرقي إلى ابن ضرمان وابن مرضي بدفع مبلغ خمسمائة ريال إعانة منه للمسجد ومستلزماته (انظر أرشيف الوثائق الوطنية، وثيقة رقم 1984).
وحين نتحدث عن بيوت الله بعد أن علمنا مدى عناية الملك المؤسس بها فإنّ للحرمين الشريفين منزلة خاصة عنده كونهما يمثلان بعداً خاصاً، يقول الشيخ محمد بن سبيل في بحثه عن رعاية الحرمين الشريفين في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز والتي جاءت ضمن البحوث والدراسات التي أصدرتها الدارة بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، يقول الشيخ ابن سبيل في الفصل الأول صفحة 100 من بحثه: «منذ أن تشرف الملك عبد العزيز - رحمه الله - بالولاية على الحرمين الشريفين أولى عناية خاصة بالمسجدين ترميماً وتعميراً وتنظيماً لأمورهما وترتيبا»، ففي سنة 1344هـ أمر - طيّب الله ثراه - بترميم المسجد الحرام مما يحتاج إلى ذلك من الجدران والأعمدة والمطاف والمشايات المؤدية إليه. ومن أعماله - رحمه الله - تبليط المسعى وتوسيعه في سنة (1345هـ - 1346هـ)، حيث كان على مر العصور غير مبلط وكان الغبار يخنق الساعين ولاسيما أيام الحج، فأزيلت النواتئ من الدكاكين التي طغت على شارع المسعى، وكان ذلك في 21 جمادى الآخرة 1345هـ وقد وضع حجر الأساس نائب الملك عبد العزيز في الحجاز الأمير فيصل بن عبد العزيز - رحمهما الله -.
وقد كثر ورود الحجاج في عام 1345هـ حتى ضاق المسجد بهم فأمر جلالته بوضع سرادقات في صحن المسجد ليجد المصلون مكاناً مظللاً يتوقون به من حر الشمس، وقد عملت في السنة التي تليها مظلات قوية ثابتة من الخشب الجاوي القوي، وكسي ذلك الخشب بالقماش السميك الأبيض.
وفي ذات العام 1345هـ عمل الملك عبد العزيز سبيلاً للشاربين من ماء زمزم بثلاث نوافذ على ارتفاع قامة الواقف إلى صدره «فكان في ذلك راحة للشاربين»، وقد ذكر المؤرخ إبراهيم بن عبيد في مؤلفه «تذكرة أولي النهى والعرفان» أنّ هذا السبيل قد كتب عليه: « أنشأ هذا السبيل الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود» (العمري 179).
وفي عام 1346هـ أمر الملك عبد العزيز بإصلاح آخر للمسجد الحرام فرمّم عموم فرش الأروقة من جهاته الأربع، وفرش عموم المماشي وغير بلاطات الأبواب والجدران داخلاً وخارجاً وأصلح كل خراب واقع في أبواب المسجد الخشبية، وأصلح مظلة مقام إبراهيم وقبة زمزم وفرش أفنية المسجد بالحصباء الجديدة، واستمر العمل سنة كاملة وصرف عليه ما يربو على ألفي جنيه ذهباً» (السبيل 100- 101).
ويذكر (السبيل) أيضاً أن من أهم أعمال الملك عبد العزيز - رحمه الله - أنه أمر بتأسيس أول مصنع لكسوة الكعبة المشرفة وبنائه بمكة في أوائل 1346هـ وتم بناؤه في خلال ستة أشهر وأنتج ثوب للكعبة في السنة نفسها، وقد كتب على تلك الكسوة في ذلك العام: «هذه الكسوة صنعت في مكة المباركة المعظمة بأمر من خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية أيّده الله بنصره سنة 1346 هجرية على صاحبها أفضل التحية وأتم التسليم».
وفي عام 1366هـ أمر - رحمه الله - بتجديد سقف المسعى بطريقة فنية محكمة، وفي ذات العام أيضاً أمر غفر الله له بصنع باب جديد للكعبة، حيث كان الباب قديماً، إذ صُنع وركِّب في عهد السلطان مراد خان سنة 1045هـ، فصُنع باب جديد بصورة بديعة مغطى بصفائح من خالص الفضة محلاّة بآيات قرآنية ونقوش من خالص الذهب، وركِّب هذا الباب عشية يوم الخميس 15 ذي الحجة 1366هـ، وفي عام 1377هـ تم ترخيم الواجهات المطلّة على المسجد الحرام ورحباته ترخيماً كاملاً.
وقد كان للمسجد النبوي ذات النصيب والقدر من العناية والاهتمام والرعاية، يقول عبد العزيز بن عبد الرحمن الحصين في بحثه «العناية بالمسجد النبوي وأثره في خدمة الإسلام والمسلمين»: «منذ أن وحّد الملك عبد العزيز أطراف المملكة العربية السعودية بدأت مرحلة استقرار ونمو في سائر مدن المملكة، وكان للمدينة المنورة نصيب وافر منها ... وكان من أول التطورات التي شهدتها المدينة المنورة في العهد السعودي الزاهر وأهمها حتى ذلك الوقت التوسعة السعودية الأولى التي بدأت بأمر من جلالة الملك عبد العزيز وبإشرافه وتمت على يد خلفه الملك سعود رحمهما الله» (الحصين 371).
ففي عام 1348هـ أمر بإجراء إصلاحات وترميمات في الأرضية المحيطة بالصحن وبعض الأعمدة في الرواقين الشرقي والغربي، وفي عام 1350هـ أمر بإحاطة الأعمدة التي يلحظ عليها أي تشقق أو تصدّع بأطواق من الحديد.
يقول (الحصين 371): «أما التوسعة التي أمر بها فتبدأ قصتها في عام 1368هـ عندما نشرت الصحف المصرية نقلاً عن بعض الزوار المصريين الذين زاروا المسجد النبوي خبراً عن وجود تشققات في بعض الأعمدة، وما لبثت أن هوّلت الأمر، وتنادت لإنقاذ مبنى المسجد النبوي من خطر السقوط، ووجد بعض المحررين في هذه القضية مادة إعلامية مثيرة، فأفاضوا فيها واستثاروا القراء، وانتقلت القضية إلى المساجد وتحمّس لها الخطباء، وتحوّلت النداءات إلى مقترحات ومشاريع، وتشكّلت لجنة لجمع التبرعات، ونشرت إعلاناتها في الصحف والمساجد، وبدأت تتلقّى التبرعات السخية، حدث ذلك كله دون أن يرجع أحد إلى الجهة القائمة على المسجد النبوي أو يتحقق من صحة الروايات المتزايدة.
(وما كادت الأنباء توافي مسامع جلالة الملك حتى أبرق لرئيس الوزراء المصري، يطلب إليه أن ترد التبرعات إلى أربابها، وأنه سيضطلع بتكاليف عمارة المسجد من ماله الخاص ابتغاء رضوان الله» أ.هـ
وفي الخامس من شوال 1370هـ أقيم حفل بالمسجد الحرام للبدء بأعمال التوسعة، وأعطيت الأوامر ببدء هدم العقارات بعد أن دفعت أثمانها، وفي الرابع والعشرين من رمضان 1372هـ بدأت عملية البناء، وفي الثاني من شهر ربيع الأول عام 1373هـ توفي الملك عبد العزيز عليه رحمة الله، فخلفه ابنه الملك سعود - رحمه الله - فوضع بيده أربع أحجار في الزاوية الشمالية الغربية من التوسعة تأكيداً لاستمرار المشروع الذي بدأه الملك الراحل فتواصل العمل حتى 1375هـ، حيث افتتح المسجد في الخامس من ربيع الأول 1375هـ، وكان البناء من الخرسانة المسلحة وهي أول مرة تدخل فيها الخرسانة في بناء المسجد.
رحم الله ذلك الرجل، رحم الله الملك عبد العزيز وطيّب ثراه وجعله مآله إلى جنات ونهر، فقد كان من الرجال العظماء، رفع لواء نصرة العزيز الجبار فنصره، وعمل على توحيد البلاد ولم تنسه أفراح الانتصار وأفراح الفتوحات أن يقيم الصلاة ويحث عليها ويشيد ويبنى مكان إقامتها، سعياً منه ليتآلف الناس ويكونوا جماعة صفاً واحداً خلف إمام واحد، فكان له ما أراد - بتوفيق الله - فتوحّد الشعب بعد توحيد الأرض، وأصبح الجميع تحت حاكم عادل محبوب أنزل له القبول في الأرض بعد أن أرضى ربه وعمل بسنّة نبيه وطبّق شرعه وقد أوصى المؤسس من بعده بذلك، فحمل الأبناء بعده الراية واجتهدوا وقدموا وضحوا، ولايزال الأشاوس منهم - أطال الله في أعمارهم على طاعته ومرضاته وتوفيقه - يعملون ويبذلون ويسهرون، سائرين مسيرة والدهم الباني - رحمه الله - في خدمة بيوت الله والحرمين الشريفين، حتى أطلق ملكنا وولي أمرنا على نفسه لقب خادم الحرمين الشريفين، طلباً للأجر والمثوبة أولاً ثم اعتزازاً وفخراً ورفعة لهذا البلد المعطاء، ووصل العطاء منهم لكل أصقاع الأرض فعمروا المساجد وأقاموا المراكز المتكاملة، وزوّدوها بكل الإمكانات من كتب ودعاة وغيره، ودعموها مادياً ومعنوياً، وجعلوها منارات تشع بالعلم وترفع راية التوحيد وتنشر العقيدة السلفية الصحيحة وتعكس الصورة السمحة لديننا العظيم، فأحب المسلمون هذه البلاد وعظّموها في نفوسهم، ولهجوا بالدعاء لحكامها ووزرائها وشعبها ومن يقيم على ترابها الطاهر.
اللهم أمنن علينا بشفاء خادم الحرمين الشريفين، اللهم اشفه شفاء لا يغادر سقماً، وأرجعه إلينا سالماً معافى، اللهم وفّق ولي عهده وسمو النائب الثاني لكل خير، واجعل ما يقدمونه للإسلام والمسلمين في موازين حسناتهم، إنه جواد كريم.
- ثرمداءSDOKHAIL@GMAIL.COM