كتب عالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي عن سيكولوجية تناقض العقل العربي، فضرب الأمثلة على عمق الهوة بين النظرية والتطبيق في الشخصية المسلمة، ويذكر أن جميع نسخ كتابه «وعاظ السلاطين» سحبت من المكتبات العامة وأسواق الكتب في العراق، بأمر من الرئيس العراقي السابق، كما منع تداوله، وتحول إلى منشور سري يتداوله القراء، ويرى البعض أن سبب منع الكتاب، إشارته لفساد الوضع السياسي في العراق قبل سقوطه الأخير.
فالواعظون الذين قصدهم الوردي كانوا لا يكترثون لو كان المغني مثلاً يغني للخليفة فتهتز على نغماته بطون الجواري، لكنهم يصبون جام غضبهم، إذا رأوا صعلوكاً يغني لنفسه أو لأهل قريته من الفقراء والمساكين، وتكاد تنطبق تلك النظرة المزدوجة على معظم وعاظ المجتمعات المسلمة، الذين لا يجدون في العامة إلا الجهل والتخلف وإخضاعهم لسلطتهم، وإلى الانضباط وطاعة الأوامر، بينما تتميز النخب بالامتيازات والاستثناءات الشرعية.
هناك أيضاً من يرجع أهم أسباب الممانعة الشعبية للديموقراطية تأويلات واجتهادات دينية ترفض الآليات المستوردة من الغرب..، فالرأي الشعبي يتلقى تعاليم وأقوال واجتهادات دينيه تحذر منهم أي من حكم العامة أو الأكثرية أو تقلل من أهمية المشاركة في إدارة شئون البلدية أو السياسية، وتلقن أن الشورى ليست الديموقراطية، وأن «الإسلام هو دين الشورى، والله عز وجل يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} الشورى (38).. والشورى تشبه الديموقراطية في شيء وتخالفها في شيء، فهي تشبه الديموقراطية في اشتراك الناس في الحكم، لكنها تختلف عن الديموقراطية في أنها تقصر الرأي المسموع على العليم دون الجهول، والعارف دون العابث، إذ ليس كل أحد أهلاً أن يستشار، ولا رأي لجاهل في الإسلام.
حسب رأي الوعاظ أن الديموقراطية تتجه إلى الاهتمام بالكم، بينما تتجه الشورى إلى الاهتمام بالكيف، وأقرب تسمية يمكن أن تعرف بها الشورى في الإسلام أنها «ديموقراطية العلماء والخبراء وأهل المعرفة والاختصاص»، وهذا الرأي الذي يقف خلفه بعض علماء الدين، يحاولون تأصيله من القرآن الكريم في عدة مواضع، مما يضفي عليه القدسيه عند رجل الشارع، فالأمر يتم بسؤال أهل العلم {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} الأنبياء (7).. ويخبر بعضهم أن عامة الناس ليسوا دائماً على صواب والدليل تكرار قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وقوله عز وجل: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} الأنعام (116).
الفتوى المذكورة أعلاه هي التبرير الديني لرفض خيار الديموقراطية لمفتي أحد البلاد العربية التي يحكمها «حزب علماني اشتراكي»، أفتى به عند سؤاله عن حكم تطبيق الديموقراطية في ذلك البلد، وهذا يدل على مدى عمق الهوة بين الخطاب الديني والتطور السياسي، فالتأصيل الديني تم استدعاؤه ضد العامه أو الرعاع لرغبة ساسة العلمانية العسكرية من أجل تبرير رفض الديموقراطية.
مما يعني أن استدعاء التفسيرات الدينية السلطويه لإقصاء الخيار الديمقراطي لا يقتصر على البلاد التي تحكم بالشريعة الإسلامية، بل تستخدمها دوائر الحكم العلماني العسكري للتشكيك في جواز التعامل معه.، مما يزيد الأمر تعقيداً، ويقلل من حصر أزمة الإنسان العربي في الموروث الثقافي فقط، ويدفعنا إلى توجيه نداء للبحث في خصائص سوسيولوجيا التركيبة العشائرية في بنية هرم القوة والطاعة في العائلة العربية،.. أو حتى في بيولوجيا الإنسان العربي، وذلك لتفسير ظاهرة ممانعته لفطرة التطور الطبيعي..!.
الأزمة الحالية أن سلطة التقليد والجمود الديني موجهة ضد العامة، وتحصر القرار والقانون تحت مظلة النخب من علماء ومثقفين، ومع ذلك تجد العامة تنتصر للتقليد وتدافع عنه برغم من أن الوعاظ يضعونهم ضمن الرعاع والجهلة الذين لا رأي لهم، ولا يستحقون المشاركة، وفي ذلك تسفيه بالرأي العام، ويدخل ضمن تضليل الوعاظ وإعاقتهم لمسيرة الإصلاح الإنساني، وأرى أن التصنيف الشائع في تقسيم الناس إلى نخبة علماء ورعاع لا ينطبق على هذا العصر، لأن وسائل التعليم والمعرفة لم تعد حكراً على النخبة فالشبكة العنكبوتية مزقت حواجز الفصل المعرفي بين العلماء والعامة، لكن ذلك لا يعني أن علاقة التجاذب المتضاد بين علماء الدين والرعاع قد تلاشت، فبعض العامة لا يزال تحت تأثير بعض رجال الدين برغم من نظرتهم الدونية للغالبية.