سُئلتُ أكثرَ من مرة عن مفهوم التنمية: وعن الفرق بينها وبين التخلف. وقد تَجوّل ذهني عبر كواليس الفكر الإداري وأدبياته بحثاً عن ردِّ مما كُتِبَ عن التنمية وما قيِلَ عنها، وعجبتُ كيف يستعصي على امرئ ما العثور على جواب لسؤال عن التنمية، وهي التي قِيلَ أكثرُ مما قاله قيسٌ في ليلاه، وما تغنّى به العرب والعجم في فتنة القمر قبل أن تطأه أقدام (آرم سترونج) ويسلبه الأمريكيون عذرية القرون!
لقد كتبت مؤخراً كلاماً عن التنمية لم يرضني في حينه أو يطفئ غليل السؤال في خاطري، وأحسب أنه قد سبقني إليه ألف (عكاشة) في الغرب والشرق سواء، ورحتُ أعزّي نفسي وأنا أقرأ ما كتبته حيث قلت:
لِمَ لا يتواصل الحديث عن التنمية؟ فكلنا في همها شرقا وغربا، وعربا وعجما! وما دامت مفاهيم التنمية: سالفها وحديثها، لا تقوم في الأصل على حقائق ثابتة تنكر الجدل، فسيظل البحث فيها وعنها مورداً عذباً للجميع، لأن التعبير عنها، في أي إطار، يظل في حقيقته تجسيداً لمواقف تتقاسمها معارف الإنسان جغرافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية ونفسية ودينية أيضاً: ويقيني أن الباحث عن مفهوم للتنمية في ضوء كل تلك المعارف بات كالباحث عن صيد نادر في غابة يحتضنها ليل بهيم!
مرة أخرى، يبرز السؤال الملح: ما هي التنمية؟
إذا جاز منطقياً تعريف الشيء بضده، فإنه يمكن القول بأن التنمية هي الوجه الآخر للتخلف، فهما نقيضان لا يلتقيان، التخلف يعني القصور في بلوغ غاية مثلى يبتغيها المرء أو الأمة. فالجهل مثلاً يعني حالة من التخلف أو الفشل في إدراك المعرفة بروافدها المختلفة، والفقر يعني حالةً من التخلف أو الفشل في إدراك قدر من الغنى يقي المرء فتنة الحاجة ومذلة السؤال!
إذاً، فالتنمية في معناها الواسع والشامل، هي الانتقال من حال أدنى إلى حال أفضل، هي التحرك بمؤشر إيجابي نحو تحقيق المزيد من الخير والنفع، في ضروبه المختلفة للفرد والأمة سواء.
وعندما نستهدي بما حوته أدبيات التنمية منشورة وغير منشورة نفاجأ بحشد هائل من الطروحات والاجتهادات، قلّ أن يجمعها رافد واحد، فالاقتصاديون يعرفون التنمية من وجهة نظرهم بالتصاعد المتنامي في إنتاج السلع والخدمات واستثمار الموارد المتاحة، طبيعية وغيرها الاستثمار الأمثل، رغبة في إدراك مردود مادي أفضل للفرد والمجتمع، والمنظرون الاجتماعيون يقيسون التنمية بنجاح الفرد والجماعة في تجاوز إحباطات النمو عبر منظومات معينة، يأتي على رأسها منظومة المجتمع المدني، وهناك صنف ثالث من المنظرين يربط بين مفهوم التنمية والمتغير والصناعي، مستخدماً مخرجات هذا المتغير دليلاً على ذلك.
وفي رأيي المتواضع أن التنمية ليست سلعة تباع وتشتري، ولا يمكن بأي حال قياسُها بمؤشرات الإنتاج الاقتصادي والتقني فحسب، التنمية في تقديري، تبدأ بالإنسان وبه تنتهي، ومن خلاله تعبر إلى آفاق الإبداع، فهو غايتُها وهو وسيلتُها وهو طموحها، ومن ثم، فإن كل خطوة تستهدف نقل الإنسان إلى حال أفضل، علماص وتفكيراً وإرادة ومعاشاً، فهي تنميةوكل خطوة تمكن الإنسان من بلوغ ما يريد الإرادة المشروعة لخيره ومن معه فهي تنمية.
وبمعنى آخر، كلُّ ما يقرِّب الإنسان من إنسانيته وسعادته، فضيلةً وثراءً مادياً ومعنوياً وتربية وإبداعاً وإنتاجاً، فهو تنمية، وما عدا ذلك فهو تخلّفٌ بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من مدلول.
وبعد..،
أعزائي أدباءَ التنمية، أتُراني قد أخرجت هذا القلم من حصار التأمل في فتنة القمر، بالحديث عن التنمية؟ أم أنني لم أغادر بعد ديار قيس ومضارب ليلى؟!