هكذا انتهى عام ميلادي ليحل محله عام جديد. وهكذا انتهى عقد ميلادي مليء بالأحداث الجسام، التي كان نصيب أمتنا، عربياً وإسلامياً، فيها هو الكثير من الوقائع الكارثية، ليبدأ عقد جديد يكتنف
مقدمه الكثير من الملامح التي لا تبعث على الأمل بالنسبة لأوضاع أمتنا على وجه العموم. وقد يسأل سائل: ما الذي جعلك تشير، في هذه المقالة، أو في عنوانها، إلى التاريخ الميلادي بدلاً من التاريخ الهجري؟ فهل تكون الإجابة مقبولة إذا قلت: إن عدوى التأمرك قد تكون أقوى من أن تقاومها مناعة أولئك الذين أخذ يدب فيهم داء الشيخوخة من أمثالي. عدوى التأمرك، أو الأمركة، لم يبق وطن من أوطان أمتنا لم تصل إليه بما في ذلك وطننا مهد العرب ومهبط الوحي المنزل بلسان عربي مبين. ألا يرى المتأمل في مجريات الأمور كيف توجه السهام إلى جسد اللغة العربية -مثلاً- بوسائل جديدة نفّاضة، تماماً كما توجه إلى المنهج العقدي الجلي الذي قام على أساسه حكم هذا الوطن العزيز وشيد بنيان وحدته؟
الحديث عن تلك السهام الموجهة إلى مكانة اللغة الأم في مهدها وإلى كيان المنهج الأساس في منطلقه يطول كثيراً بحيث لا تستوعب جزءاً منه -وإن يكن موجزاً- هذه المقالة.
أعلم أن المؤمن مأمور بالتفاؤل، وأعلم أن التفاؤل أقوى سلاح في صمود الأمم أمام أعدائها، وفي بلوغها أهدافها، تقدماً ورقياً. وأشاهد -كما يشاهد غيري- أمثلة حية على حيوية الصمود. ولو لم يكن من هذه الأمثلة إلا صمود الأحبة من أبناء فلسطين وبناتها تحت الاحتلال الصهيوني الذي لا يُدانى، شراسة وبشاعة وتغطرساً، لكفى مقنعاً بمنزلة التفاؤل.
على أن التفاؤل لم يعد متملكاً لوجداني منذ أربعة عقود، وبخاصة فيما يتعلق بقضية أمتنا الكبرى.. قضية فلسطين. كانت حرب 1973م حرباً أثبت فيها المقاتل العربي على الجبهتين المصرية والسورية عظمته وبطولته، لكن نهاية تلك الحرب شهدت محاصرة قوة صهيونية لقوة مصرية غربي قناة السويس. وكان مما عبّرت به عن مشاعر ذلك المقاتل البطل قوله:
غير أنّي
بعد ما سطّرت في التاريخ أنباء صمودي
وبدت في غرّة الكون تباشير انتصاري
أوقفوني
غرسوا في الظهر خنجر
وأتوني بمشاريع كيسنجر
بدأوا يحكون عن سلم وعن حل وسط
حقّي الواضح بالزيف اختلطْ
فإذا الباطل بالأمس يعود اليوم حقا
وإذا الكاذب بالأمس يقول اليوم صدقا
أمس قالوا:
لا سلامْ
مع أعداء العروبة
وأنا اليوم أغنِّي وأزمِّر
لاقتراحات السلامْ.
لم تمض إلا أعوام ستة من الغناء والتزمير لاقتراحات السلام، أو الاستسلام أو سمه ما شئت، إلا وقد وقع ما غنّي وزمّر له في كامب ديفيد حيث حيّدت أعظم قوة عربية كان الأمل معقوداً على الله ثم عليها في تحرير فلسطين، وخرجت من ميدان المواجهة مع الكيان الصهيوني. وما دام الأمر قد أصبح كذلك فإنه لم يكن مستغرباً على بقية الدول العربية، التي لم يكن لها ثقل مصر، كثافة سكانية ومكاناً جغرافياً بالنسبة لفلسطين، أن تطرح مبادرة مؤتمر فاس المشهورة على 1982م. ويبدو أن إدراك الصهاينة أن تلك المبادرة كانت علامة على الضعف زادهم شعوراً بالجبروت، فأقدموا على اجتياح لبنان، وارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم دون رد فعل عربي. وكان ذلك الاجتياح أشبه ما يكون بجوابهم على تلك المبادرة.
وفي بداية العقد التالي للعقد الذي طرحت فيه مبادرة فاس ذهب العرب إلى مؤتمر مدريد، الذي عقد على أساس الأرض مقابل السلام. والمقصود بالأرض -بطبيعة الحال- ليس أرض فلسطين، التي كان أسلافها يرفضون الاعتراف بشرعية وجود دولة صهيونية عليها، وإنما ما احتله الصهاينة من بقية أرضها وأراض عربية أخرى عام 1967م فحسب. ولذلك لم يكن مستغرباً على القيادة الفلسطينية أن تقدم على ما أقدمت عليه في أوسلو من اتفاقية تكشّف من بنوها ما تكشف، وجرّت ما جرّت إليه من نتائج يعرفها المتابعون لسير الأمور حق المعرفة.
وبعد عقد من مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو جاءت المبادرة العربية البيروتية المنطلق. وهي مبادرة تكاد تكون مماثلة للمبادرة في قمة فاس قبل عقدين من الزمن تقريباً. وكما كانت المبادرة الأولى في فاس -في نظري- لم تمنع الصهاينة من أن يقتحموا أراضي لبنان ويرتكبوا فوقها ما ارتكبوا من جرائم فظيعة، وكانت بمثابة الرد العملي على تلك المبادرة، جاءت المبادرة العربية البيروتية ليقدم الصهاينة على العدوان. ذلك أنه لم تمض إلا أيام قليلة جداً على إعلانها حتى اجتاحت قواتهم المدن الفلسطينية، وارتكبت ما ارتكبت من تقتيل وتدمير. وكان ذلك الاجتياح وما نتج عنه من جرائم فظيعة بمثابة الرد العملي على طرح المبادرة العربية في قمة بيروت.
في العقد المنصرم تضاعف ارتكاب الصهاينة لجرائمهم الفظيعة على الساحتين اللبنانية والفلسطينية. وبقدر ما كان قادتهم يزدادون عتوا وجبروتاً كان العرب من يزدادون غياباً عن قضيتهم. ما حدث لغزة وأهلها قبل عامين شاهد صادق على ما قيل عن هؤلاء وأولئك. وكنت قد كتبت مقالات عديدة عن الذل الذي تجلّى في أوضح صورة في نفوس أمتنا، تجاه ذلك العدوان الصهيوني المدعوم دعماً غير محدود من قبل المتصهينين في أمريكا وفي بريطانيا. وقد أصدرت تلك المقالات في كتاب عنوانه «عام من الذل والانخداع»، ونشرته دار الفكر في دمشق. وبعد صدور هذا الكتاب واصلت كتابة المقالات المتصلة بالقضية الفلسطينية، وذلك من بداية العام الماضي. ومن هذه المقالات مقالة بعنوان «أهو عام فيه تُصفَّى القضية؟»، ومقالة عنوانها «عندما يؤرخ ضياع فلسطين»، وثالثة عنوانها «بيع الأوطان بالمزاد العلني».
قد يقول قائل: إن النظرة تجاه الكيان الصهيوني المتمادي في ارتكاب جرائم الحرب الفظيعة، وممارسة أبشع وجوه العنصرية، قد تغيرت بدليل وقوف شرفاء في مؤسسات علمية غربية لها مكانتها، وبخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، موقفاً نبيلاً متمثلاً في مقاطعة جامعات ذلك الكيان ومؤسساه البحثية. وإضافة إلى ذلك فإن عدة دول أعلنت أنها ستعترف بدولة فلسطين على حدود 1967م. وهذا أمر طيب ومشجع بدون شك. لكن من المؤسف والباعث على عدم التفاؤل أن الذين يفترض أنهم هم أصحاب القضية الجديرون بالدفاع عنها والداعمون لها تبدو مواقفهم أبعد ما يكونون عن أن تكون في المستوى المطلوب. أقل ما يأمل المواطن العربي والمسلم المخلص لقضية أمته الأولى.. قضية فلسطين.. أن يرى الدول العربية، التي تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني، تجمد تلك العلاقات إذا لم يكن بمقدورها قطعها.
في بداية العام الميلادي المنصرم كان عنوان مقالتي «أهو عام فيه تُصفَّى القضية». وانتهى ذلك العام ولما تستكمل بعد أدوات تصفيتها. والسؤال الذي يمكن أن يطرح في بداية هذا العام الحالي هو «أهو عام يكمل فيه تهويد فلسطين؟».
أما بالنسبة للعقد الجديد ففي ظني أنه سيشهد مزيداً من تفكّك أقطار أمتنا، عربياً وإسلامياً. ولو أخذت السودان مثالاً لدفعني التفاؤل لدي إلى أن أتوقع انقسامه إلى خمس دويلات: جنوب السودان، ودولة الخرطوم وملحقاتها، ودولة دارفور، ودولة شرق السودان، ودولة النوبة التي يمكن أن يضم إليها جزء من جنوبي مصر، وإلى الله المصير.