فإن التراث العربي والإسلامي هو ميراث، يتوارثه جيل بعد جيل، ويتسلم رايته قرن بعد قرن، وما زالت له رغم بعد العهد، واهتزاز التعاطي معه من فترة لفترة - بهجة في نفس محبيه، ولم لا وهو بقايا عقول الأوائل، وخلاصة تجاربهم وعلومهم، وحافظ مآثرهم، ومخلد إنجازاتهم، يظهر هذا من معناه اللغوي، حيث هو: «ما يُخَلِّفه الرجل لورثته، والتاء فيه بدل من الواو، والوِرْثُ والإِرْثُ والتُّراثُ والمِيراثُ ما وُرِثَ، وقيل الوِرْثُ والمِيراثُ في المال والإِرْثُ في الحسَب»، والتراث في تعريفه المعاصر: «هو الآثار المكتوبة الموروثة التي حفظها التاريخ كاملة أو مبتورة فوصلت إلينا بأشخاصها».
وتنتقل إلينا مواد التراث في وعاء تختلف تسمياته حسب شكله ومحتواه، فقد يكون على شكل مخطوطة، ويعنى به كما جاء في المعجم الوسيط :»المخطوط هو الكتاب المكتوب بالخط لا بالمطبعة وجمعه مخطوطات»،
وعرفه نِظام حماية التراث المخطوط في المملكة العربية السعودية الصادر عام 1422هـ، الرقم: م-23، التاريخ: 24-5-1422هـ، بأنه «هو ما خُط باليد أو رُقِن بالآلة، ومضى على تدوينه خمسون عاماً فأكثر، سواء أنُشِر فيما بعد أمْ لم يُنشر، وسواء أكان في مكتبة رسمية أمْ خاصة، أو لدى الهيئات أو شخص بعينه».
وقد يكون التراث على شكل وثيقة، و»هناك اختلاف كبير حول تعريف الوثيقة، وتتراوح التعريفات بين تعريف واسع يشمل كل الأوراق والبرديات وغيرها من الخامات التي تحتوي على مادة مكتوبة أنتجها الناس في جميع العصور التاريخية سواء أكانت تحتوي على كتب أو مخطوطات أو مراسلات ومكاتبات أو أوامر وعقود زواج وطلاق وغيرها؛ وبين تعريف ضيق يشمل فقط الأوراق والسجلات التي أنتجتها الدواوين والمصالح الحكومية وحفظ فيها».
ويمكن تعريفها أيضا بأنها: «أي نص مكتوب يتضمن معلومات تاريخية تتعلق بحادثة أو شخصية أو منطقة معينة، أو كما يعرفها البعض بأنها «كل مدون يحتوي على معلومات ذات قيمة تاريخية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية». ويمكن تقسيم الوثائق إلى نوعين:
وثائق رسمية، وهي الصادرة من جهة رسمية في الحكومة، وتكون درجة حجيتها عالية، وتحفظ في أرشيف الدوائر الحكومية المختصة بها غالبا.
ووثائق غير رسمية، وهي التي تكون مما يتداوله الناس في معاملاتهم وشؤون حياتهم المتنوعة، وتكون طريقة حفظها مختلفة، ففي الصومال مثلا لوحظ أنهم يحفظون المخطوطات وكثيرا من الوثائق بدفنها في الأرض، وفي المملكة تنوعت طرق الحفظ بين وضعها في «علب من المعدن أو النحاس ، وعلب من الخشب ومشتقاته، وأكياس صغيرة من الجلد، وأكياس قماشية، وتجمع هذه الأوعية ومحتوياتها في صناديق خشبية متهالكة لا تحميها من العوامل الجوية كالحرارة والرطوبة، ولا تقاوم تسربات المياه أو الحريق إليها، فضلاً عن القوارض والحشرات الضارة بالورق».
وتغطي الوثائق مجالات عدة، أهمها: «إثباتات الوقف والسبيل والصدقات الجارية، إثبات العطايا والهبات الشرعية، المبايعات بأنواعها: (أملاك - ماء - مواش - المنازل - السلاح... إلخ، المعامرات والمغارسات، إنهاء المخاصمات وإثبات الصلح، الوصايا الشرعية، حصر وقسمة الميراث، اقتسام ماء العيون، إثبات المديونيات والمخالصات، قسمة الأملاك والممتلكات، المطالبات والدعاوَى، مناقلة الملكية، والإفراغات، الأحلاف والمعاهدات القبلية، القوانين القبلية واللزائم، ترسيم الحدود بين القبائل، وبين أهل القرى، الرسائل الشخصية، الرسائل الرسمية (من الأهالي على الدولة، أو العكس، إثبات الأنساب وتفرعات القبائل أو الأسر، إثبات ديات القتل، إثبات العتق، التنذير (تقدير الإصابات - الشجاج الأرش)، إثبات الحماية والدخلة، الفتاوَى الشرعية»،
وزيادة على ذلك من مجالات الوثائق :الرحلات، والتجارة، والصحة، والصناعة، والعلوم والقضاء، والمواصلات، والثقافة، والحالة الاقتصادية والاجتماعية،
و»تعد الوثائق والمكاتبات الشخصية من أدق المصادر وأكثرها حيادية فيما يتعلق بمعرفة تاريخ الأسر وأنسابها، فهذه الوثائق لم يكتبها مؤرخ يحكمه مَيْل معيّن، ولم يقصد بها إثبات النسب أصلاً، وهذا ما يعطيها الحيادية المطلوبة، وينأى بها عن الأهواء والمبالغات وتضخيم الذات.
وعن طريق دراسة تلك الوثائق وتتبعها حسب مراحلها التاريخية يستطيع الباحث متابعة تسلسل جدود كثير من الأسر المعاصرة من سكان منطقة البحث، فضلاً عن معرفة أصولهم وجذورهم وعلاقة الأسر أو القبائل ببعضها، ومن الملحوظات الملفتة للنظر أثناء تتبع معلومات الوثائق فيما يتعلق بالأنساب ومعرفة الجدود، أن معلومات الوثائق تنسف كثيراً من الروايات العامية التي لا أصل لها، بل إن كثيراً من الأسر يتناقل رواتها معلومات خاطئة عن أنسابهم، بل وعن تسلسل جدودهم، لأنهم يتناقلون معلومات شفهية غير مكتوبة، فدخلها كثير من الخلط والتشويش والأخطاء».
ويضاف إلى ذلك أن هذه الوثائق لعبت دورا مهما في نجد؛ حيث كانت الحياة فيها في فترة زمنية سابقة غير مستقرة، وكثرت الهجرات منها خارج الحدود، ولأماكن بعيدة عنها جدا، وأنبتت الصلة بين المهاجرين ونجد لفترة جيلين على الأقل، ولكن هذه الوثائق حفظت حقوق وأملاك هؤلاء المهاجرين حتى بعد موت الفرع الأول والثاني، وحفظت النسب، ولو لم يكن لها من دور غير هذا لكفى.
ناهيك عن توثيق تاريخ هذه البلاد والجهود التي بذلت والفريق الذي عمل في تأسيس هذه البلاد المباركة فهو يحفظ الحقوق ويذكر الجهود والوحدة التي تنعم بها البلاد والتي أنتجت استقرارا وتنمية يجب أن نحافظ عليها، وفي الختام أتوجه بخالص الشكر والتقدير للأمير سلمان بن عبد العزيز على جهوده في متابعة كل ما يهم تاريخ المملكة،والحفاظ على تاريخها من الضياع، وتشجيعه للجهود في هذا المضمار، وتهيئة البيئة المناسبة لعملها.
كما أتوجه بالشكر لأمين عام دارة الملك عبد العزيز الدكتور فهد السماري على ما يقوم به من جهود في جمع وحفظ ودراسة الوثائق السعودية، وأتمنى له وللدارة دوام التوفيق والسداد.
(*) دكتور وأستاذ أحاديث الأحكام والدراسات العليا - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية