هنا لا بد من تحديد المصطلحات بشكل مبسط ومقارب، يسهل الفهم، وييسر المقارنة، ويسهم في مطارحة الموضوع وعرضه وسبر أغواره بين يدي القارئ الكريم، خاصة وأن البعض من هذه الألفاظ موغل في الخصوصية والذاتية، فالشفافية - في نظري- هي طرح الموضوع محل الحديث بكل مصداقية ووضوح وعدم إخفاء شيء من الحقائق والمعلومات - التي من المفترض أن تتاح للجميع - بحجج ضعيفة ولأسباب واهية.. وهي - أي الشفافية - مطلب عزيز في هذا الزمن عند الكثير من بني البشر، يطالب بها الشعب الساسة وصناع القرار، كما يطالب بها صغار المساهمين والمستهلكين رجال المال والأعمال والمستثمرين الكبار، وكذا الكتاب والمثقفون العلماء والمفتون، و ينشدها الأبناء من أولياء أمورهم والمعلمين، والمدعوون من المصلحين، و... والحديث عن الشفافية أضحى اليوم حديثاً عالمياً، وصار المصطلح شائعاً بشكل ملحوظ عند الكل حتى العامة والصغار فضلاً عن الطبقة المثقفة التي من أبرز مهامها النقد والمراقبة وتصنيف الأمم ورصد تحركات الشعوب والدول، أما الشفاية فهي الإيغال في حب الاستطلاع الممقوت والذي يقود صاحبه إلى التجسس والتحسس والتصنت وسلوك كل ما هو مشين من الأعمال القلبية والقولية والفعلية حتى صار الستر في حس البعض منا عملة نادرة، وخلة عزيزة.. والتشفي هو بإيجاز الفرح حين يصاب أحد بمصيبة أو يقع في معصية أو يرتكب خطيئة و الإسراع في إشاعة الخبر وتناقله وإذاعته في المجالس والمنتديات مع الزيادة والتفنن في السياق، وفي ذات الوقت ادعاء أن هذا النهج من الحياد وعدم التحيز والأمانة في النقل والموضوعية في الطرح، فالكل في نظر هؤلاء القوم تحت المجهر، والأخطاء لا بد أن ترصد ويعلمها الناس!!، والباعث لهذا كله الحقد والحسد والغل الذي في الصدور، خاصة أن النقد غالباً لا يتوجه للفعل بل تشخصن القضايا وتعمم الأخطاء بلا رادع ولا رقيب.
هذه هي رؤيتي الشخصية للمصطلحات الثلاث والتي هي عند البعض منا وللأسف الشديد متداخلة بل ربما أنها في قاموس جمع من أصحاب الأهواء والنزوات متماثلة، أو أن بعضها مستلزم لبعض، ولذا عندما تذكره بخطورة التشفي وحرمة الشفاية يلوذ بالمصطلح الثالث ويصمك بأنك ضد الشفافية التي هي الخط الأول لوأد الفساد ولكبح جماح المتنفذين والمتسلطين أصحاب الأهواء والنزوات والنزعات التوسعية الشخصية ولو على حساب المواطن وفي غير مصلحة الوطن، فضلاً عن أن الشفافية الحقيقية من متطلبات التغيير الذي دشن مشروعه وأعلن عن ميلاده خادم الحرمين الشريفين بنفسه منذ تقلد مقاليد الحكم في بلدنا المعطاء وطننا المبارك.
إن هناك صِنفاً منا تراه سمَّاعًا لقَالة السوء، نقَّالاً لأخبار الفَساد الشخصي الذي لا صلة له بالغير، ولا أثر فيه على حياة الناس، ولا يرتبط بوظيفة الرجل ومستلزمات ومهام عمله لا من قريب ولا من بعيد، يتلذَّذ بإشاعتها وإذاعتها، يتصدَّر المجالسَ وصفحات الإنترنت بالتجريح والتسخيف، الظَّن عنده يقين، والإشاعة في منطقه حقيقة، والهفوة في ميزانه خُلق دائم، لا يمل من تكرار الأخبار المشئومة، ولا يفتر من ترصد الأحداث المرذولة ذات الطابع الشخصي إن وجدت. وفي هؤلاء يقول ابنُ قيم الجوزية - رحمه الله: «ومِنَ النَّاس مَن طبعُه طبع خنزير، يمر بالطيِّبات، فلا يقف عليها.. يرى من المحاسن أضعافَ المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء، وجد بُغيته، وجعلها فاكهته ونَقلها».
وإذا كان نشر فضائح العباد قد ذَمَّ الشرعُ فاعله وتوعده، فكيف بمَنْ يتهمون الآخرين بالظن، ويشيعون التُّهَمَ بالوهم، يفترون على الأبرياء، ويشوهون صورة الفضلاء بالإفْكِ والبهتان، فهذا الرجم بالإثم إن استهان به مَن استهان، فهو عند الله عظيم وجُرم كبير؛ وصدق الله القائل : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} لاحظ التلقي باللسان يعني أنه لا يأتي عن طريق الأذن وصولاً للعقل بل من اللسان إلى اللسان مباشرة لا يعمل المتلقي فيه عقله ولا يستفتي قلبه وهذا إفك عظيم وجرم كبير وإلى لقاء والسلام.