تلقيت ثلاث دعوات كريمات ممن لا أعصى لهم أمراً، وما كنت حفياً بأمر كاحتفائي بالوفاء لذوي الحقوق الممطولة من أبناء وطننا السباق إلى معالي الأمور، وليس غريباً أن يستبق الموسرون والأدباء والإعلاميون إشاعة محاسن
الأحياء والأموات فيحيوا ذكراً أو يردوا جميلاً، فهم بما يبذلون من عمل يؤدون بعض ما يجب عليهم من فروض الكفاية، فمنهم من ينفق من مال الله الذي آتاه من غير سرف ولا مخيلة، ومنهم من يبسط جاهه شفيعا لذوي الحاجات، ومنهم من يُسخِّر قلمه أو يُطلق لسانه لإشاعة الذكر الحسن وحمل المترددين
على مبادرة الإحسان على حد:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليُسْعد النطق إن لم تسعد الحال
والمناسبات الثلاث توسلت بالمال والجاه واللسان والقلم عبر تظاهرة ثقافية عَرَفت لذوي الفضل فضلهم، ولقد قيل من قيل:
(لا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل).
كانت المناسبة الأولى محاضرة تأبينية تَعُدُّ المآثر وتَسْتعيد الذكريات ألقاها معالي الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة وزير الثقافة والإعلام عن رجل العطاء معالي الدكتور محمد عبده يماني - رحمه الله - وأدارها الأستاذ خالد بن حمد المالك رئيس تحرير جريدة الجزيرة، واستضافتها (خميسية) حمد الجاسر.
وكانت المناسبة الثانية تكريماً للمربي القدير الأستاذ محمد بن عثمان البشر وتدشينا لسيرته الذاتية (حبَّ الحصيد).
استضافها الدكتور محمد بن عبدالله المشوح في (ثلوثيته).
وكانت المناسبة الثالثة احتفاءً بمرور خمسين عاماً على (ندوة الرفاعي) وإشادة بمآثر مؤسسها معالي الأستاذ عبدالعزيز بن أحمد الرفاعي رحمه الله، أحياها رجل الأعمال الشيخ أحمد باجنيد الذي تلقى راية الندوة بعد وفاة صاحبها تحت مسمى (ندوة الوفاء) ورعاها وزير الثقافة والإعلام الصديق والقريب للمحتفى به.
والمناسبات الثلاث تقاطرت مساءي الثلاثاء والأربعاء وصباح الخميس 24-1-1432هـ في (ثلوثية) المشوح و(مركز الملك فهد الثقافي) و(دارة العرب) ولقد شرفت بحضورها جميعا، والإلمام ببعض ما دار فيها عبر المتون والهوامش، وحمدت للرعاة المنفقين والراعين المباركين كرمهم وأريحيتهم وتغلبهم على ظروفهم وفاء للأحياء، وإشادة بالأموات، وإذا كان المسلم مأجوراً حين يلقى أخاه بوجه طلق، فكيف تكون العاقبة إذا بُذل في سبيل الإسعاد شيء من المال والجهد والوقت، وإذ لم يشهد الأموات ما هم أهل له من الاحتفاء والإشادة، فإن أبناءهم وأحفادهم وذوي رحمهم يبتهجون بهذا التكريم الذي كان بودي لو أنه جاء وهم أحياء يرزقون ليعرفوا قدرهم.
والتقدير وإن جاء متأخراً فإنه إسعاد لخلفهم وتحفير للداتهم ومجايليهم ممن يترددون في سدِّ المكان الذي سَدُّوا.
في أصبوحة (دارة العرب) كان الحديث المستفيض عن جوانب من شخصية النقيد محمد عبده يماني، وكان المتحدِّث الرئيس زميله وقريبه ومخالطه في مواقع كثيرة معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة، وحديثه المقتضب عُزِّز بتقديم سخي مداخلاتٍ ثريةٍ، فكان الحديث ذا ثلاث شعب:
- استهلال الأستاذ خالد المالك الذي كان قريباً من الفقيد بحكم عمله الصحفي.
- ومحاضرة معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة الخبير بدواخل الفقيد في الجامعة والوزارة وبعد التقاعد.
- ثم استوى اللقاء على سوقه بمداخلات الحضور ممن عمل مع الفقيد أو رصد نشاطه الرسمي و التطوعي أو ممن أصابه وابل من أفضاله. ولقد تفاوت المداخلون بين جدٍّ صارم وتلطف غير عازم وشهوة للكلام لا تقول شيئاً ولكنهم جميعاً استدركوا فوات المحاضر وسلطوا الأضواء على جوانب من حيوات الفقيد الحافلة بجلائل الأعمال، وإن أجمعوا على الثناء العريض، الأمر الذي حفز معالي الدكتور سليمان السليم على استدراك هذا الفوات مشيراً إلى ما كان الغرب يفعله في التأبين من ذكر الإيجابيات والسلبيات موطئاً لرؤيته بحديث: (كلكم خطاؤون وخير الخطائين التوابون). ومصححاً مفهوم: (اذكروا محاسن موتاك)، وعلى النقيض من مداخلته مداخلة الأستاذ محمد بن ناصر الأسمري الذي وصف مجايلي الفقيد بالظلاميين، حيث جمع بين التعميم والاتهام، وما كانت العصمة متأتية ولا مشهوداً بها لأحد بعد الرسل فيما يبلغون عن الله، وكيف يتأتى مثل هذا الوصف والمؤبَّن نفسه كان منصفا لمخالفيه في بعض ما يذهب إليه محترماً لهم مجتهداً في مجادلتهم بالتي هي أحسن، والفقيد الذي تقلد عدة مناصب، وكتب وحاضر وألف ونذر نفسه لخدمة أمته في المنشط والمكره والعسر واليسر لا يمكن أن ينجو من الخطأ والنسيان، وكيف لا نستشعر أخطاءنا ونقبل الناصحين والله جل وعلا تعقب رسوله بالعتاب والمساءلة: (عَبَسَ)، {عَفَا اللّهُ عَنكَ}، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى}، {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم}، {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، {تَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ولقد أُلِّفت كتبٌ تقصت عقاب الله لرسوله الذي قال عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، والفقيد الذي نُكن له المحبة والاحترام ونثمن سعيه الحثيث في سبل الخير نحسبه كما قيل عنه والله حسيبه، ولو لم يكن لأبي (ياسر) من لاعلم الذي ينتفع به إلا دفاعه المسدد عن الصحابي الجليل (أبي هريرة) رضي الله عنه، وتفنيده العلمي لدعاوي المرجفين والمفترين للكذب لكفاه، وإني لأرجو أن يكون ذلك العمل الجليل شفيعه عند الله.
لقد استهل المداخلات معالي الدكتور أحمد الضبيب واختتمها معالي الدكتور سليمان السليم وتدفقت فيما بين هذا وذاك الرؤى والتصورات، ولقد حفل التقديم بلفتات مفيدة، حيث أشار الأستاذ خالد المالك إلى محطات مضيئة من حياة الفقيد ولفت الأنظار إلى أن التقاعد عند الجادين بداية حياة مفيدة لمن انتصر على نفسه، وضرب مثلا بالفقيد الذي وظف جهده ومال ووقته وخبرته وعلاقاته للعمل الإنساني وقال: (بقي قلباً نقياً ينبض بخدمة الناس وتلمس احتياجاتهم وعقلا يفكر دائما بما يمكن أن يقدم من أعمال إنسانية واجتماعية لخدمة وطنه وإخوانه المواطنين وظل صديقا للكتاب قارئاً ومؤلفاً وصوتاً حاضراً بقوة في المنتديات ومنابر الرأي بالكلمة الجميلة التي تتميز بالصدق والموضوعية والهدوء.
فيما أشار بعض المداخلين إلى مبادرات إيجابية تمثلت ب(المؤتمر الأول للأدباء السعوديين) و(إنشاء المجلس الأعلى للإعلام).
ذلك بعض ما كان من أمر الاحتفاء بالفقيد، أما الاحتفاء بالمربي القدير أبي عثمان محمد بن عثمان البشر حفيد المؤرخ النجدي ومؤلف كتاب (حب الحصيد) والحاضر في كل عمل إنساني أو ديني فهو احتفاء يليق بمثله لقد تحدث في هذا اللقاء لفيف من طلبته ومحبيه، في مقدمته معالي الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وما كان لي أن أتخلف عن هذه المناسبة، وهو الأستاذ والمرشد والحاضر في كل المناسبات دعماً وإسهاماً وسعياً في حاجات الناس، لقد كان بودي حضور لفيف من طلابه الذين يكنون له المحبة والاحترام، ومن بين أولئك معالي الدكتور محمد بن سليمان الجاسر ومعالي الدكتور حمود البدر ومعالي الدكتور علي الغفيص وآخرون من ذوي المؤهلات العلمية أو المناصب العليا ولربما أنهم لم يعلموا بهذه المناسبة السعيدة، ولما أزل أمني نفسي بقراءة نقدية لكتابه (حب الحصيد) لأنه رصد أمين لسعي الدولة الحثيث في تطوير التعليم وكافة مؤسسات المجتمع المدني.
دامت أفراح البلاد ومناسباته السعيدة.