في السابق كانت (النخبة) في شتى المجالات هي المسيطرة, وهي التي لها الكلمة الطولى، وهي التي تتحدث وتقول وتتكلم، وهي التي تظهر عبر وسائل الإعلام، في حين أن (العامة) من البشر (مهمشين) ليس لديهم الفرص الكافية للتعبير عن ثقافتهم واهتماماتهم وطموحاتهم.
ولكن الزمن لم يتوقف على هذه الحال رغم طول الفترة التي قضاها في خدمة (النخب) المثقفة, جاء الزمن الحالي ليقلب الطاولة على النخبة ويعطي المساحة الأكبر (للجماهير) لتقول وتتحدث وتتكلم وتكتب ما تشاء عبر مساحات إعلامية وإلكترونية لم تكن متوفرة لهم في السابق.
هذا الزمن يصفه د. عبد الله الغذامي ب(ما بعد الحداثة) ويشير أن هذه المرحلة هي مرحلة (الجماهير) فهي اللاعب الأكبر والحلقة الأقوى في زمن لم يعد فيه (للنخب) المثقفة ذلك الوهج والصيت والسمعة والمكانة, ويؤكد الغذامي في كتابه (الثقافة التلفزيونية: سقوط النخبة وبروز الشعبي) أن الصورة باتت نصا متحركا واسع النطاق، مشيرا إلى تغير مقاييس الثقافة: إرسالاً واستقبالاً وتذوقاً, ولافتا إلى أن (الصورة) بمختلف أنواعها كسرت التمايز الثقافي - الطبقي ووسعت من دوائر الاستقبال فتوسعت تبعا لذلك القاعدة الشعبية للثقافة ما زعزع مكانة النخبة وبات الجميع سواسية في التعبير واكتساب المعرفة والتعرف على العالم.
هذا التحول -في تقديري- يجعلنا أمام خيار واحد لا ثاني له، يتمثل في قبول الجماهير كما هم، والتعاطي معهم بالصورة التي تحقق طموحاتهم واحترام ثقافتهم وتطلعاتهم، ليس لأن الزمن زمنهم فحسب، بل لأنهم بشر ينتمون لفئة الإنسان, ذلك أن (غطرسة) النخب وكبرياءهم جعلهم (يهمشون) هذه الفئة لسنوات طويلة, حتى أنهم يصفونهم ب(السوقة, العامة، السواد، رجل الشارع، الرأي العام). هذه المفاهم الجديدة لم يدركها كثير من (النخب المثقفة), وإن أدركوها لا يريدون أن يعترفوا بها خوفا على مكانتهم. لا يريد كثير من النخب وإن اعترفوا باختلاف الزمن فما زال يفكر بعقلية أيام (الستينيات) التي لا ترى في الجماهير تلك الأهمية, ولا يرغب أن ينزل إلى مستواهم الثقافي, فما زال يجد حرجا في التعاطي معهم وفتح علاقة وجدانية معهم، ويعد ذلك نيلا من (هيلمانه).
الجماهير اليوم هي سيدة الموقف, وهي التي ترفع من شأن (س) وتحط من شأن (ص), وهي التي تعطي للأعمال الثقافية والأدبية والفنية ذلك الوهج، وهذا ما فطن له ( السياسي) و(الاقتصادي) عندما عرفا كيف يستميلان الجماهير لهما ويحققان متطلباتهما ويكسبان من ورائهما الشيء الكثير, أما النخب المثقفة فما زالت تعيش صدمة عصر الجماهير, وما زلت تحلم بعشرين مليون مثقف نخبوي, ولكن مصيرها أن تعرف، ومصيرها أن تغير في إستراتيجيات الاستقبال والإرسال لديها حتى تضع الجماهير صديقا لها, بدلا من أن تجعلها مشجبا يبررون به ضعف توزيع وانتشار وفهم منتجاتهم الثقافية.