تابعت حواراً شيقاً وصلني مسجلاً على اليوتيوب لحلقة مقابلة تمت على قناة الحوار بين حقوقي سعودي مثقف ومذيع عربي عالي النبرة، حول أوضاع «حقوق الإنسان» في المملكة العربية السعودية. وبينما حاول الحقوقي الاحتفاظ بعلميته وهدوئه ومصداقيته في رسم صورة لما تفعله وتواجهه وتعايشه جهود الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في السعودية، فإن المذيع ظل يحاول دس أسئلة تحريضية مسيسة تتسول إجابات تجريمية، ذكرتني ببعض الأسئلة الموجهة وغير البريئة التي يصيغها بعض المستفتين للحصول على الأحكام التي يرومونها من مفتي الديار أو هذا الشيخ أو ذاك.
حقوق الإنسان مفهوم لا يعود بعيداً في التاريخ. وحتى الدول الموقعة على اتفاقيات عدم التمييز، بما في ذلك الأوروبية والأمريكية، لم تستطع محو ممارسات التمييز بين الأفراد والفئات. كل ما يستطيعون فعله هو تجريم ممارسة التمييز بين البشر والمواطنين ومعاقبة من يفعل ذلك علناً ويقام عليه الدليل. ولكن هذا ما تسعى إليه الحكومات الرشيدة.
في الحضارات القديمة لم يكن هناك موقع في تعامل المجتمع يسمح بالفردية. لم يكن متاحاً للفرد قرار اتخاذ خيارات شخصية تخرج عن نطاق ما اتفق المجموع البشري أنه المعتاد الأفضل ليحتفظ كمجموع بقدرة الاستمرار والبقاء، حسب مرئياته. ولم يكن هناك تهاود مع ما يمكن أن يضعف المجموع. وحيثما كان استعباد فئة من البشر الآخرين أو استنقاص شأن فئة من المواطنين متقبلاً على أنه ضرورة لرخاء أو تمييز الفئة المهيمنة، يترسخ التمييز.
البعض يخلط بين حقوق الإنسان ووجود قانون في البلد، ولكن العلاقة ليست تطابقاً تاماً بين الحالتين. فرغم أن أول من سنّ القوانين كان حمورابي، إلا أن ذلك لا يعني وجود حقوق الإنسان وقتها، كما فصلته المنظمات الرسمية القائمة اليوم، بمعنى حقوق مساواة للجميع مطالب بها لكل مولود بشري بغض النظر عن الأصل والعرق والجنس واللون والدين والمذهب واللغة؛ أي مطالب بها لكل إنسان أينما كان، كفرد لا يختلف في حقوق انتمائه الإنساني عن الآخرين. ولا يزال هناك ضمن كل مجتمع يعتبر متحضراً من يمارسون فعلاً التمييز والعنصرية والطائفية والمذهبية والتمييز ضد المرأة، ولا يبدون أي استعداد لتقبل فكرة حقوق للإنسان أي إنسان خارج حقوق انتمائه إلى فئة مميزة مقارنة بغيرها من فئات المجتمع بغض النظر عن اختلافه أو فرديته تميزاً أو عجزاً عن قدرات الآخرين. وفي حين قد يحمّل البعض المستضعفون مسؤوليات انتماء أثقل من غيرهم، كما في نظام الطبقية الذي مازالت تمارسه بعض المجتمعات الآسيوية حيث ولادة فرد في طبقة سفلى تمنعه، مهما تميز ذكاؤه وقدرته، من العبور إلى طبقة أعلى ليتمتع بتميزات أفرادها المولودين فيها، وإن كانوا أقل منه ذكاء وقدرة. فلا يحق لفرد من طبقة المنبوذين المعتبرين أنجاساً أن يعمل في أي وظيفة أو أن يحب فتاة من طبقة الهندوس البراهمن المعتبرين مطهرين ويحلم بالزواج منها. وفي مجتمعات كثيرة لم يكن لأي أنثى حقوق الرجل، بل لا يعترف بكونها مواطنة. وما زال الوضع قائماً.. بل إن بعض الثقافات البشرية تقبلت قديماً وحديثاً القضاء على أي حالة فردية يرون أنها باستمرار وجودها قد تتسبب على المدى القصير أو البعيد في الإضرار بالمجموع؛ مثلاً حضارة طروادة العسكرية التوجه في تركيزها على بناء الجيش والقوة المحاربة هجوماً ودفاعاً مجدت الكمال الجسدي لأهميته في الدفاع عن المجموع، ولذلك فأي طفل ولد بشيء من التشوه أو ضعف البنية، وأي صغير يبدو عليه التخلف الذهني مصيره أن يرمى من أعلى جبل للتخلص منه. وقد مارست النازية مفاهيم تمييز مشابهة ضمن فكرة الشعب الجرماني المتفوق على غيره. كما مارست جنوب إفريقيا العنصرية سياسة الفصل العرقي حتى سقط النظام نهائياً، وما زالت إسرائيل حتى الآن أسوأ نظام رسمي عنصري يعتمد التفرقة ومحاصرة الفلسطينيين سكان البلد الأصليين بقصد الإبادة. ومع هذا ففي إسرائيل منظمات لحقوق الإنسان!.. وربّما المذيع الصاخب النبرة تذكر أو تناسى تفاصيل بلده وهو يتكلم عن الطبقية وتوزيع الثروات.