من يُراقب الأوضاع السياسية في الكويت يجد النّعرات القبليّة وكذلك الطائفية مشتعلة، إلى درجة تنذر بالخطر. هذه (النَّعرات) تكاد تعصف باستقرار الكويت هذه الأيام، بعد أن تم تسييسها، وتوظيف الأبعاد القبليّة في المماحكات والمهاترات السياسية بين نواب مجلس الأمة. وأخشى ما نخشاه نحن السعوديين أن تمتد مثل هذه النعرات إلينا، وخصوصاً أن التشكّلات القبليّة متشابهة بيننا وبينهم، كما أن هناك أكثر من 130 ألف سعودي يعيشون في الكويت، أغلبهم من أصول قبليّة؛ ومثل هذه الفتن تحتاج في كثير من الأحيان إلى مجرّد (شرارة)، لتكون بمثابة الجذوة التي تُشعل الفتنة، فتمتد ألسنة اللهب إلى كل مكان يكون فيه لهذه القبائل حضور وامتدادات. وقد علمتنا حرب الخليج أن ما يجري في الكويت نتأثر به والعكس صحيح؛ فالبلدان يُعتبران نسيجاً سكانّياً واحداً، كما أن الروابط التاريخية بين الشعبين قوية، وضاربة في أعماق التاريخ. لذلك يجب أن نكون حذرين للغاية من هذه المماحكات القادمة من هناك وانعكاساتها على النسيج الاجتماعي في المملكة.
لا خلاف على أن (القبيلة) هي أحد المكوّنات الرئيسة لشعوب المنطقة، ولا يملك أحدٌ إلغاءها أو شطبها بجرة قلم. ولكن هناك فرق بين القبيلة كمفهوم و(القبليّة) كمفهوم ومصطلح مختلف، وإن كان متفرِّعاً عنها. (القبليّة) تعني التعصب القبلي، والانطلاق منه في تحديد المواقف والدفاع عن المصالح؛ وعندما تصبح القبليّة (أجندة سياسية)، يتمحور حولها وحول مصالحها الضيِّقة أفراد القبيلة، ويُقدمونها على (الانتماء) الوطني، فقل على الوطن السلام. ومن يقرأ التاريخ يجد أن التعصب القبلي، وكذلك التعصب الطائفي، مثل (الأوبئة)، إذا ما انتشرت وتلوّثت بها مفاهيم الشعوب تشرذمت وتشظّت، وأصبح الوطن ليس ملكاً لجميع فئاته كما يُفترض أن يكون، وإنما يتوقف بقاؤه على مدى التوافق بين القبائل أو التوافق بين الطوائف، التي يتكوّن منها نسيجه الاجتماعي؛ فتصبح القبيلة أو الطائفة عملياً هي الدولة؛ وأقرب مثال على ما أقول ما يجري الآن في العراق، وكذلك في السودان؛ وليست دولة الطوائف (اللبنانية) - أيضاً - عن هذه القضية ببعيد.
والمتعصب القبلي ينظر إلى الآخر - من هو خارج القبيلة - على اعتبار أنه عدو محتمل، أو على الأقل منافس على (الغنيمة) الوطنية، التي يجب أن يحتكرها لنفسه ولأبناء قبيلته دون الآخرين قدر المستطاع. والمتعصب القبلي لا يؤمن بالتعددية، ولا بالشراكة في الوطن، ولا بالنقد، ولا بحق الآخر في دفع النقد؛ بل يختزل كل معاني الوفاء والعطاء والأخوة والنخوة و(الفزعة) والتراحم، بل وكل معاني الإنسانية في نطاق الانتماء القبلي في الدرجة الأولى، ويأتي مَن هم خارج القبيلة في درجة لاحقة من حيث التراتبية.
يقول الدكتور سعد الصويان في مؤلفه الضخم (الصحراء العربية) وهو يتحدث عن الأجيال الجديدة من أبناء القبائل الذين ولدوا في الحواضر وأخفقوا في التعايش مع قيمها غير القبليّة: (التطرُّف في التشبُّث بالرموز القبليّة خارج سياقاتها يشوّه مفهوم القبيلة، تماماً كما يشوّه التزمّت الديني مفهوم الدين. حينما كان التنظيم القبلي حيّاً وفاعلاً كان على درجة عالية من المرونة والانفتاح والقابلية للتكيف مع الظروف الطارئة وكان بعيداً عن التشنّجات والعصبيّات التي يمارسها بعض أبناء القبائل اليوم) ص 473 .. وما يجري في الكويت هذه الأيام ينطبق على ما ذكره الدكتور الصويان تماماً؛ وخطرها على الوحدة الوطنية لا يخفى على الحصيف.
إلى اللقاء.