كان درسَنا الأول في مادة الإنشاء بالصف الأول المتوسط، والموضوع: «ما ذا تود أن تكون؟»، وارتحل بنا الخيال بعيدًا ؛ فكتب بعضُنا وهمَه الجميل؛ متطلعًا ليصبح طبيبًا أو مهندسًا، غير مدركين أننا في معهدٍ علمي «ديني» لا يتيحُ لنا سوى تخصصات اللغة والشريعة والعلوم الاجتماعية، وأدرك ثلةٌ من زملائنا الحقيقة فتحولوا للمتوسطة العامة، وجمع آخرون بين الدراستين، ورضي معظمُنا «بقسمة الرحمن فينا» وآمنا أنْ «كلٌ ميسرٌ لما خُلق له».
كذا تبدو الحياةُ عالمًا افتراضيًا ممتزجًا بالتهويم والتعتيم؛ فما نعيشه غيرُ ما نسمعُه، وهذان غير ما نراه ونقرؤه، وهي كلها مدى محدودٌ في مسافات ممدودة لا نقتعد في مداراتها سوى «مفحص قطاة «لا تستجيب لمبدأ النسبة والتناسب وسط هذا الكون المختلط الهائج المائج الغريب.
كثيرون لم يسكنوا «شقة الحرية» ولم يعرفوا «الأزقة المهجورة» ولا يعنيهم «شارع العطايف» كما لا يعُون حكاية «الواد والعم» ولون «عيون الثعالب» وسمات «نساء المنكر» وطبيعة «بنات الرياض»؛ فبقيت الزوايا التي يحتلونها في الفضاء محدودةً بمساءاتهم الوادعة وصباحاتهم الكادحة غير حافلين بالسير والروايات.
يسمعون كما سواهم فيصدقون ثم ينصرفون مستعيدين حوقلة المحتسب وحمد الأمن، نائين بجانبهم عما لا يعنيهم، مرددين لازمة «التمام» الذي يحسبون أنه الوئام والمنام ؛ فإذا حُدثوا عن القتل والاغتصاب والسرقة والتعاطي والمجون والجنون والإرهاب واليباب تخيلوها في عوالمَ بعيدةٍ لا تمثل لهم غير أحاديث للسمر.
اختلف اليومُ عن الأمس ؛ فلا مكان لمقارنة أو مقاربة ؛ ليبقى السؤال عن الغد مرتهنًا بالدراسات المستقبلية المتكئة على مناهج غائبة عن تخصصاتنا ومقرراتنا، وهو ما يعلن عنه ولعُنا بالصياغات اللذيذة لمعطيات الرؤية والرسالة والإستراتيجيات والأهداف فنبدو كمن يختبره معلم التعبير في فائض القول ومرادفه وجمالياته ؛ فما يأتي مرتهن لما فات، والحاضر إشارة الغائب والمُغَيب.
يهمسُ الناس بالتحديات القادمة ثم يتجاهلونها اتكاءً على معالم الزوايا الضيقة التي لا تحتاج لعدسةٍ مكبرةٍ، ويكفي أن وسعت الحياةُ الأجداد فلن تضيق بالأحفاد، مع أن سيناريو المعطيات المجتمعية المستقبلية لا يقبل الافتراض والافتراضيين وإن سكنه المتشائمون والمتفائلون بتناقضاتهم وربما بصداماتهم.
لدراسة المستقبل لدى العالم الأول مراكز واتحادات، وفي بعض الجامعات برامج على مستوى الماجستير والدكتوراه، والناس معنيون بمآلهم وأبنائهم في أمور الاقتصاد والسياسة والأمن والبيئة وأنماط الحياة ووسائطها وتوقعاتها كما تحدياتها، وهو ما يتفق مع المفاهيم الإيمانية لعمارة الأرض والعلو فيها.
في مدرسته التي أدارها عقوداً كان أستاذنا عبد الرحمن البطحي رحمه الله (1357- 1427 هـ) يطلب من طلبة الصف السادس في «المدرسة العزيزية» كتابة أمنياتهم لما يريدون أن يبلغوه، وكان يجمعها لديه ثم يريهم إياها حين يكبرون ليجدوا فيها كمًا من الاشتعالات والانطفاءات، وفي وقت أنْ جاءت موضوعاتنا الإنشائية مجالا للتندر كانت أحلامُهم مساحةً للتذكر والتفكر ؛ ليبقى الغدُ مدارَ كل الحكايات.
لم نتجاوز دروسَ التعبير بعد؛ فما نزال نتوهم النصر في المنام ؛ مكتفين بتسفيه الآخرين والدعاء عليهم، وكفاهم أنهم مستيقظون لا يفاجئهم النهار بشمسه وظله.
** المستقبل لمن يعمل.