انتقل إلى رحمة الله تعالى الأسبوع الماضي الخال عبد الله الناصر العودان رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته بعد رحلة طويلة من الكفاح والصبر والنجاح والمرض، ودّعنا بعد أن حقّق انتصارات رائعة على ظروف الحياة القاسية ونجاحات هائلة في جميع صراعاته مع تقلبات الزمن، واستحوذ على الصدارة في الكثير من المجالات، وأكمل رسالته بتميّز وأدّى مهّمته بإتقان ولملم أوراق ذكرياته وطوى صفحات نجاحاته وودّع أحبابه بابتسامته المعهودة دون أن يستسلم للمرض أو ينحني للألم، توقفت مسيرته بعد أن ترك آثار أقدامه محفورة على صخور الذاكرة وعالقة في الأذهان ومرسومة على جدار الزمن لن يمحوها زحف رمال النسيان، فأمثال عبد الله العودان يجب أن تبقى ذكراه عطرة وسيرته مثالا يحتذى وشخصيته قدوة، وهو خالي الوحيد لذا اعذروني لو أطلقت لقلمي العنان وأفسحت أمامه المجال ليكتب ما يريد، حيث لم يكن الحزن الذي انتابني نتيجة تواصل دائم أو قرب مستمر إنما ارتباط عاطفي وتقارب وجداني وحب وتقدير يستحقه، فعندما كان يأتي لمزرعته في المجمعة يرحمه الله يتصل ويطلبني للحضور، كان يقول أنت الوحيد الذي لا يوجد خطوط حمراء للنقاش معه، وكم تجادلنا وتناقشنا واختلفنا، نقاش الأب الحاني ونصائح المعلم الأمين وتوجيهات العالم المتمرس، نقاش مفتوح ضوابطه الاحترام والتقدير، فلديه قدره عجيبة على فتح مواضيع محظورة واستدراج من يقابله للدخول معه في حوارات ساخنة كل حسب اهتماماته وتوجهاته، وكلما استمعت بإنصات وأنصتّ بإعجاب وهو يسترسل في الحديث تحقيقا لرغبتي ليسرد بعض مراحله العمرية ومحطات من حياته، أشعر أنني مولود في ذلك اليوم ولم أمر بتجارب ولم أسمع عن معاناة ولم أقرأ سيراً ولم أجرّب تقلبات الزمن، فهو يملك تجارب ثرية ومواقف نموذجية يصعب الكتابة عنها ووصفها، فقد عايش جميع المستويات الاجتماعية والأوضاع الأسرية والأحوال المادية والظروف المعيشية، وكان تلميذاً نجيباً ومتعلماً نابغةً ومزارعاً ناجحاً وتاجراً متفوّقاً وحرفياً متميّزاً ومقاولاً أميناً ومعلماً ملهماً وموجهاً حكيماً ومواطناً يدرك معنى الوطنية. كنت أطلب منه أن أكتب مذكراته أو أدون بعض مواقفه أو جزءا من سيرته فكان يضحك ويقول أي مذكرات وأي سيرة ويبدأ بسرد مواقف لرجال غيّروا التاريخ وأعلام أثروا المكتبات وقادة نهضوا بدولهم ومناضلين حرّروا شعوبهم ليقنعني أنه لا يملك ما يستحق التدوين بينما قصة كفاحه في نظر الكثيرين تستحق التدريس والعبرة والقدوة كنموذج فريد جمع كل صفات الرجل العصامي، ولم أدرك المعنى الحقيقي لصفة عصامي إلا بعد أن استمعت لسيرة الخال عبد الله العودان من بعض ممن عاصروه وزاملوه وجالسوه، فمنذ ولادته على قطعة حصير في ذلك البيت الطيني خلف أبواب خشب لا تستر من بالداخل وتحت سقف لا يقي برد ولا مطر، إلى أن ودع الدنيا تاركاً خلفه بصمة في الصناعة وعلامة في التجارة وسعة في الرزق وثروة من السمعة الحسنة والأصدقاء الأوفياء والمحبين المخلصين، والمودعين الحزانى والأبناء المتميزين المبدعين وشريكة حياته أم ناصر التي قاسمته رحلة الكفاح والمعاناة والصبر التي لا يستعيب أن يثني عليها في مجالس الرجال وبين تلك البداية وهذه النهاية كان هناك محطات مؤثرة في حياته ومسيرته بدأها بخروجه وهو صاحب الخمسة عشر ربيعاً من منزل والدته في أقدم أحياء المجمعة مستأذناً منها متوجهاً للرياض متمرداً على عادات اجتماعية بالية في وقت يعتبر الخروج عن المألوف خطأ لا يغتفر ليحرِّر نفسه من قيود التبعية والفقر والبساطة ويعلن رفضه للواقع الأليم والاستسلام للظروف القاسية ليستقل بفكر مختلف قاده للتميز فسبق زمانه وتفوّق على أقرانه وضرب في الأرض يطلب الرزق والعلم والعمل ليشق طريقه في أرض وعرة وسط عواصف عاتية يكسر بإرادته كل الحواجز النفسية وعوامل الإحباط المحيطة به حتى وصل إلى أفضل مما توقع الآخرون له، ورغم ذلك لم ترضِ طموحاته ولم يحقِّق كل أهدافه، فلا يوجد في قاموسه كلمة صعب أو مستحيل أو عبارة لا أعرف. ولا أتصور أنه في يوم من الأيام انحنى للعاصفة، بل قد تكون العاصفة انحنت له ولا أظن أنه استظل بظل شجرة ليرتاح، بل كان يعيب على من يبحث عن الراحة، فالحياة لديه عمل من المهد إلى اللحد. تعلم من الحياة والتجارب أكثر من الكتب والدروس فقد عمل حمّالاً فتعلّم الصبر وعمل في أرامكو فعرف النظام وعمل في الصناعة فتمكّن من الإتقان واشتغل في التجارة وأدرك قيمة الحياة. مزرعة والده التي استلمها قطعة من أرض صحراوية حوّلها إلى حديقة غنّاء، كنت أقول له وماذا بعد يا خال فكان يقول يجب علينا عندما نستلم شيئاً من الأجيال السابقة أن نسلِّمه للأجيال القادمة أفضل مما استلمناه أو لا نستحق أن نستلمه أو نعيش من أجله. كان موسوعة متنقِّلة ومكتبة تحوي أنفس الكتب. دخلت عليه وهو أمام جهاز الكمبيوتر فقلت له أيكم يستفيد من الآخر وأيكم يأخذ من الآخر فضحك وقال هذا بحر من العلوم يجب أن تغوص في أغواره وتبحر في علومه وعلِّم أبناءك وأهل بيتك كيف يستخدمونه بطريقة صحيحة ويستفيدون منه أكبر استفادة. فإذا كنت قد حققت شيئاً من النجاح في بعض جوانب حياتي فالفضل يعود بعد الله لكلمات الخال عبد الله العودان التي تشحذ الهمم وعباراته التي توقد الحماس وتدفع للأمام ولتلك الكتب التي يجبرني على أخذها وقراءتها ليناقشني في محتواها الجلسة القادمة ولا يسمح بالأعذار، وإن كنت تمنيت أن آخذ منه قوة البأس وروح العزيمة والإصرار على النجاح وعدم اليائس.
وختاماً شكراً عبد الله العودان لما قدَّمته، وباسم من تركتهم خلفك يذكرونك بالخير، وباسم بيت عاش من خيرك، وباسم شاب ساهمت في تزويجه، وباسم فقير أعنته، وباسم قريب ساعدته، وباسم محتاج فككت كربته، وباسم عاطل إلى طريق العمل دللته. أقول لك وداعاً وإلى جنة عرضها السموات والأرض ورحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته.
ناصر بن إبراهيم اليوسف - مدير العلاقات العامة والإعلام الجامعي بجامعة المجمعة