ما زالت الأقلام في صحفنا السيارة؛ تتابع آثار الأمطار والسيول الأخيرة، وخاصة ما نال محافظة جدة منها. هذا حقها، ومن حق المتضررين من آثار الأمطار والسيول في محافظة جدة على وجه خاص، أن تقف الصحافة إلى جانبهم، وأن تشرح معاناتهم السابقة واللاحقة.
من العيب أن تدخل جدة- وهي العاصمة الاقتصادية للبلاد، وثاني المدن السعودية سكاناً وعمراناً بعد العاصمة الرياض- أقول: من العيب أن تدخل العقد الثاني من الألفية الثالثة وهي تنزف من داخلها مياهاً عفنة تسمى مياه المجاري. عيب والله أن تبقى جدة حتى هذا التاريخ بدون شبكة صرف صحي مكتملة، وبدون شبكة لتصريف مياه الأمطار عوضاً عن السيول، وأن تبقى حتى اليوم وهي تحت رحمة ستة عشر وادياً تصب فيها سيولها كلما جاء موسم الأمطار..!
هل بعد هذا العيب من عيب..؟!
لا أعتقد أبداً، ولهذا فإن الجهات المعنية بتخطيط جدة وتعميرها وتطويرها وتمدينها منذ أربعة عقود مضت وليس اليوم فقط، ينبغي أن تُساءل وتُحاسب، ويُكشف لهذا الجيل عن أسماء المقصرين الذين فرطوا فورطوا. فرطوا في توجيه المخصصات المالية الضخمة للمشاريع التنموية كما ينبغي لها، فورطوا جدة بكاملها، وورطوا معها أربعة ملايين نسمة من السكان، أولئك الذين لا ذنب لهم إلا أنهم كانوا مبهورين بأضواء وأسواق جدة، فأصبحوا يعيشون في أسوأ مدن العالم تلوثاً.
هل هذا كل ما في المسألة..؟
هل ما حدث ويحدث في جدة وفي غيرها من المدن، بعد كل موجة أمطار، من قتلى ومصابين وخسائر مادية، هو بسبب تقصير هذه الجهة أو تلك..؟
أعتقد أن المواطن نفسه في هذه البلاد، يتحمل جزءًا من المسئولية، لأنه هو الآخر فرط في حياته، وأسهم في أوضاع مأسوية نراها ونقرأ عنها في الصحف، ولو أنا تتبعنا ما ينشر عن حالات من هذا القبيل، لوجدنا أن أكثرها ناتج عن جهل أو تهور أو تهاون وعدم تقدير لحجم الحدث، فيما لو هطلت أمطار غزيرة، وسال هذا الوادي أو ذاك، فجُرفت مبانٍ ودور مقامة عليه، أو غامر هذا وذاك، فخاض عباب الماء الجاري، معتمداً على سيارته الفارهة، أو معرفته المسبقة بالطرق.
كم من أناس ابتلعتهم سيول الأودية، لأنهم سكنوا في بطون الأودية من عند أنفسهم ولم يجبرهم أحد..؟ وكم من أناس أخذتهم سيول جارفة، لأنهم ركبوا رؤوسهم فتحدوا سطوة السيل ودخلوا فيه غير مبالين بالنتائج..؟ وكم من أناس فقدوا كل ما يملكون، لأنهم استرخصوا التملك في بطون الأودية، إما بوضع اليد، أو تحت وطأة إغراء من تاجر عقار جشع، لا يهمه أكثر من جمع المال، وشعاره أبداً: (أنا ومن بعدي الطوفان).
في هذا الزمان، يخرج الناس إلى الشوارع والأودية في وقت سقوط الأمطار، بهدف التنزه والاستمتاع بالجو غير المعتاد. هو جو حقيقة جميل ورائع، وندرة سقوط الأمطار في المملكة تجعل منه ذلك، لكن كيف يتعامل هؤلاء الناس مع المطر في الشوارع، ومع السيول في الأودية..؟
هنا تكمن المشكلة، فهناك ضحايا كُثر؛ سقطوا في برك أو بئار، وآخرون تعرضوا لصواعق رعدية، وآخرون علقت سياراتهم في جنبات أو بطون الأودية فلقوا حتفهم، ولم يبق إلا أن توقف الدولة رجل دفاع مدني بجانب كل أسرة، حتى لا يتهوروا فيسقطوا في الآبار والبرك، وحتى لا يخوضوا في سيول الأودية بسياراتهم، فتعلق بهم، فتغمرهم مياه الوادي، فيموتوا غرقاً..!
لم يبق إلا أن توقف الدولة رجل أمن على رأس كل مغامر يريد أن يسجل بطولة بعبور سيل واد أمامه، ورجل أمن على كل بيت في بطن وادٍ حتى ينفر أهله من وجه السيل القادم، ورجل أمن في كل سيارة تعبر الطرق الزلقة بسرعة الصاروخ، حتى لا يفقد صاحبها السيطرة عليها، فتزلق به وتنحرف وتتشقلب وتودي به..!
أين الثقافة المطرية، التي تجعل الناس يحسبون كل حساب لمخاطر الأمطار الغزيرة، وما يصاحبها من رعود وبروق وصواعق وعواصف، ثم ما يعقبها من سيول جارفة..؟!
لو تدبرنا حياة آبائنا وأجدادنا من قبلنا، لوجدنا فيها الكثير من الدروس والعبر. لماذا كانوا يبنون دورهم في قمم الجبال وفي سفوح المرتفعات، ولم يبنوها في بطون الأودية وعلى حوافها، ولماذا كانوا يعلِّمون صغارهم العوم، ويعلمونهم مبادئ علوم الفلك الذي تدور عليه معرفتهم بحركة الشمس والقمر، ومنازل النجوم، حتى برعوا في تصنيف تقاويم مدرية لأهل الزرع، ووبرية لأهل الرعي، وسمكية لأهل البحر..؟!
ليس بالضرورة، أن يكون وراء كل كارثة مطرية أمين أو رئيس بلدية، ولا أرصاد جوية، ولا حتى مسئول كبير أو صغير. لا يُعفى من المسئولية في كوارث الأمطار والسيول إلا المطر والسيل بطبيعة الحال، ولهذا وجب أن نفتش عن ثقافتنا المطرية قبل كل شيء.