كتب - مشعل الفوازي :
البلاغة، من أهم جماليات اللغة، وهي موهبة فطرية قبل كل شيء على الرغم من أنها علم قائم بذاته وله مناهجه التعليمية المختلفة.
تأتي البلاغة في أروع وأدق حالاتها عندما تصاغ شعراً، فتجتمع تجليات الشعر، وفنون البلاغة، لتنساب الجمل الشعرية بشكل مختلف، لا يقدر على مقاربته إلا القلة.
يقال عن البلاغة في اللغة أنها: الوصول والانتهاء، يقال بلغت الغاية، أي انتهيت إليها، وبلغتها غيري.
وفي الاصطلاح: هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، أي أن الكلام البليغ، يجب أن يكون ملائما للمقام الذي يقال فيه، وللمخاطب به، فيناسب الكلام عقل المخاطب وطبقته ودرجة ثقافته.
أو كما يقول الرماني هي: (إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ).
لكن حديثنا هنا سيكون عن البلاغة، بمفهوم أشمل (وأشعر)، عن البلاغة الأشبه بكبسولة دواء شعري، تختصر كل الكلام، وتقول كل الشعر، بتكثيف، واختصار، وقدرة شعرية متجاوزة، قادرة على قول الكثير من المعاني في القليل من الكلام، وقادرة على رسم الصور البيانية للفكرة بشكل يحافظ على خاصية التصعيد الفني، ويدرك الخطوط الواصلة - الفاصلة، بين الشعر والفلسفة، باعتبار أن الومضة الشعرية المحملة بالشعر، تتداخل كثيراً مع الفلسفة العميقة، مما يؤكد نظرية أرسطو بأن الشعر ليس الفن الأكثر تكثيفاً وحسب، بل هو أيضاً الأكثر فلسفة.
ولأنه أكثر فلسفة فمن المفترض أن تكون عباراته أقل، وأعمق، ليكون في غاية الدقة والتكثيف، ولذلك قال حكماء العرب - البلاغةُ: علم كثير في قول يسير.
وللخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رؤية ثاقبة وعميقة عن البلاغة، والتكثيف، وقول الكثير من الكلام بالقليل من الكلمات، فيقول: ما رأيتُ بليغاً قط إلا وله في القول إيجاز، وفي المعاني إطالة!
هذا الإيجاز في القول، والإطالة في المعاني، يتجلى بالكثير من الومضات الشعرية، التي تزن عشرات القصائد المطولة.
منذ القدم استوقف النقاد، والمهتمين بالأدب البيت الشهير لامرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ذلك البيت الذي: وقف به الشاعر واستوقف وبكى واستبكى وذكّر بالحبيب ووصف المنزل.
امرؤ ألقيس نفسه يقول في صورة شعرية مذهلة الأبعاد الفنية:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ
إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وَفَرْعٍ يَزِينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ
أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلاَ
تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ
وهذا الوصف الدقيق البهيج للشعر تتجلى به المقدرة الشعرية البلاغية المعروفة عن امرئ القيس، لكن بندر بن سرور يلتقط المشهد من زاوية أخرى ليبث الحياة في غير موقعها:
إلى نقضت شقرٍ على جسمها ميال
تخابط سبلهنه مطارق شريطية
ولك أن تتصور هذه الصورة الشاعرية الفاتنة التي أضفاها بندر بن سرور على مطارق الشريطية، وبث روح الجمال والشفافية في حالة هي أبعد ما تكون عن ذلك..
وطالما أن الحديث عن بلاغة الشعر، عن الدهشة، التي هي هوية الشعر الحقيقي، باعتبار أن الشعر فن صناعة الدهشة، في هذه الحالة لابد أن تتجه البوصلة إلى مهندس الكلمة وكبير المبدعين البدر بن عبد المحسن، المحلق بأجنحة من شعر وسحر:
أترامى..
هذي عاداتي.. في كل العمر مره.. أترامى..
وصدقيني.. في حياتي..
ماهقيت اني.. عقاب.. ولا يمامه..
انما لعيونك انتي.. طرت لاجمل ابتسامه..
لين قلتي وين جنحانك.. ؟؟
وين جنحاني !؟
وطحت.. وطحت من اعلى غمامه..
وبين السؤالين: الاستفهامي والاستنكاري (وين جنحانك ؟... وين جنحاني؟؟) تومض اللحظة الشعرية، أو الصدمة الإبداعية، بتكنيك مبهر، يجعل القارئ (يطيح) مع المبدع ولكن إلى الأعلى.
بدر، أيضا: يخاطب من يحب ليجمع الماء والنار براحة يده ليتماشى مع جنونه الشعري..
كانها الفرقا طلبتك حاجتين
لا تعلمني ولا تكذب علي!
إنه يستخلص النتيجة مسبقا، ومن ثم يضع المعادلة المستحيلة: لا تعلمني، ولا تكذب علي..
ستكون الفكرة بمنتهى العادية والتقريرية لو قال الشاعر: لا تجاملني ولا تكذب علي، أو: لا تعلمني ولا تقسى علي.. لكنه البدر: حيث يكون للشعر لغة تختلف عن كل اللغات، ومداءات لا تحد بقوالب وجمل معتادة..
هذه اللغة هي ما يهتز لها القارئ، وتربكه، وتعيد ترتيبه، ليتكشف أن المبدع الحقيقي يستطيع أن يكتب كل الكلام، دون أن يحتاج إلا للقليل من الثمانية وعشرين حرفا.
بينما القوالب، والجمل الجاهزة المعتادة، التي تتكئ على لغة مترهلة، يستجيب لها المتلقي بتكاسل وملل رتيب ب: صح لسانك!
أو على طريقة البيت الشعري الشهير:
وإن أصدق بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
هذا البيت الذي يضرب به المثل دائما للشاعرية، بينما أرى أنه يضرب الإبداع الحقيقي في مقتل، وأنه يتحدث عما يمكن أن نقول بأنه ليس خليقا بأن يقال له شعر، فمهمة الشاعر ليست نقل الأخبار، وتمحيصها، والحرص على صحتها، بكل تقريرية وحياد، ليحصل على التزكية بالصدق، بعيداً عن تجليات الشعر وصوره وأخيلته التي لا يمكن أن تكون ردة الفعل الطبيعية تجاهها هي: صدق.
من هذا المنطلق يقول عراب الساحة الشعبية، فهد عافت:
أردى الشعر قول يجيك بمحله
وأغلى الشعر قول محله يجي فيه
وحتى (محله يجي فيه) لابد أن يتمرد الشاعر على كل ما يمكن أن تكون ردة الفعل تجاهه هي: صح لسانك، أو صدقَ !
التمرد على النمطية، بقوالبها المعلبة، يقتضي مشاغبة القارئ، وإشراكه عنوة في قراءة مختلفة للنص، الذي يلجأ من خلاله الشاعر إلى إفراغ المفردات من دلالاتها المستقرة في الأذهان وإسقاطها على دلالات أخرى بعيدة عن مرادها الحقيقي، بشفافية، ونضج، تضع طرف الخيط بيد المتلقي، وتترك له فرصة الاشتغال على اكتشاف ما خفي عنه، وكل ذلك بلغة شعرية راقية، بعيدا عن اللغة التي تحمل من كولسترول الألفاظ أكثر مما تحمل من غذاء الدلالة كما يعبر الدكتور سعد البازعي.
ولعل خير من طرق هذا الباب بنضج ومقدرة وعمق، في الشعر الشعبي، هو فهد عافت نفسه الذي يتجلى قائلاً:
الكرز واحد وعشرين حبه
رفرف الغصن و أورق عندليبه
افتحوا للشبابيك المحبه
واصدحوا بالهلاهيل الرطيبة
وبالتأكيد، لم يكن الغصن، ولا الشبابيك، ولا المحبة، هي المقصودة بذاتها، ودلالاتها المستقرة بالأذهان، لكنها تورية تبحث عن متلقٍ نشط، وقادر على مقاسمة الشاعر، التعب الممتع، في كتابة النص، ومن ثم قراءته بشكل مختلف.
على ضفة أخرى من الإبداع يقف المدهش محمد الوسمي، ملوّحا بأن:
الشعر يعني وبعض احيان ما يعني
والجرح ضيفٍ سكن بي والحشا بيته
والومضة الشعرية المدهشة هنا، التي وفق الشاعر إلى أبعد حد، في إشعال جذوتها، تتمثل في مشاكسة المتلقي، ومشاغبته، وتحفيز وعيه، بكل بلاغة، واختصار، وتكثيف، وفلسفة، وتلاعب واعٍ بالمفردة...
فلم تأتِ مفردة (يعني) كما تصور القارئ للوهلة الأولى، والذي هيأ نفسه لسماع تعريف أو توصيف معين للشعر، ليفاجئه الشاعر بكل أناقة لغوية وتمكن شعري بما لم يتوقعه، وذلك بتحويل مفردة (يعني) من مجرد توطئة للتعريف إلى فعل مفتوح النهايات والأفاق، وواسع الدلالات.
البلاغة - في رأيي - ليست مجرد اصطلاحات منهجية تنظيرية، بل إنها تستعصي على التصنيف والتنظير، مهما صنف وقيل عنها..
هي ومضة إلهام شعري، في لحظة تجلّ إبداعي مختلف.. بمعنى أنها تبتدئ من ومضة الإلهام، ولا تنتهي عند الإبداع المختلف، بل من عنده تبتدئ وتتشكل بتميز وانفراد.