لا يوجد سلاح أمضى فتكاً يمكن أن يستخدمه أعداء أمتنا مثل إثارة الفتن بين أبناء الوطن أو العمل على زيادة اشتعالها، وأعداء الأمة منهم من هم من داخلها، ومنهم من هم من خارجها، وأعداؤها من الداخل هم الأشد خطورة، والمتأمل في تاريخ أمتنا،
ماضياً، وفي واقعها، حاضراً، يجد أن كثيراً من النكبات التي حلَّت بها كان لأعدائها من داخلها الإسهام الأكبر في حدوثها، وقد يحسن تجاوز الإشارة إلى شيء من إسهام هؤلاء في النكبات التي حلَّت بأمتنا قديماً، والاكتفاء بالإشارة إلى شيء من إسهام أولئك الأعداء الداخليين في نكباتها الحاضرة للتدليل على صحة ما ذكر بوضوح.
في العراق - مثلاً - قام من زعمائه من أرادوا ضرب وحدته بتمرد في شماله، وذلك في الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي. لكن ذلك التمرد أُخمِد بحملة وَجَّهتها إليه الحكومة المركزية في بغداد. وكان من أوكلت إليه مهمة تلك الحملة وزير الداخلية حينذاك، سعيد قزاز، الذي هو من أصل كردي ثم قُدر للعراق المبتلى في كثير من حقب تاريخه أن يكون للشيوعيين من أبنائه هيمنة على مجريات الأمور فيه، وذلك بعد الانقلاب، أو الثورة عام 1958م وارتكب أولئك الشيوعيون فيه ما ارتكبوا من جرائم القتل والسحل ما لا يزال يذكره الكثيرون، ومن المؤسف والمؤلم أن شعراء من أمثال محمد صالح بحر العلوم والجواهري والبياتي كانوا من المباركين لتلك الجرائم، إن لم يقل من المحرِّضين على ارتكابها. ومن المؤسف والمؤلم، أيضاً أن الزعامة الكردية حينذاك لم تنأَ بنفسها عن التعاون مع أولئك الشيوعيين، بل إنها ارتكبت - كما ارتكبوا- من الجرائم الفظيعة ما كان الله به عليما. ومن ذلك دفن أناس كانوا -فيما يبدو- من التركمان أحياء في كركوك عام 1959م، كما ذكر ذلك - فيما بعد- الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم، نفسه.
وفي عام 1963م بدأ أعداء وحدة العراق في الشمال اتصالهم بأعداء أمتنا الصهاينة، الذين راحوا يُدربون الانفصاليين خارج العراق. ثم لما مُنعت الحكومة المركزية في بغداد من إرسال قواتها الجوية بالذات إلى شمال العراق تدفق خبراء الصهاينة من العسكريين والجواسيس إلى تلك الجهات، وأصبح تدريب الانفصاليين يتم في الأراضي العراقية نفسها، ومضت سنوات عشر كثف خلالها أعداء العراق الداخليين اتصالاتهم وتعاونهم مع المتصهينين في أمريكا وبريطانيا حتى ارتكب هؤلاء المتصهينون جريمتهم المتمثلة في عدوانهم على العراق واحتلالهم لبلاد الرافدين. ومن النادر -إن لم يكن من المستحيل- أن يجد المرء بين من تولوا حكم العراق من العراقيين، الذين بارك الاحتلال مجيئهم إلى ذلك الحكم أو هيأ وصولهم إليه، من يده نظيفة من التعاون مع الأعداء ضد مصلحة وطنهم وسيادته ومصلحة مواطنيه على العموم.
وفي ظل حكم أولئك المتعاونين مع المتصهينين للعراق كان من بين الجرائم المرتكبة تفجيرات عديدة ضد المصلِّين في مساجد أو حُسينيات متعددة ذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء، لكن لم يكن لذلك صدى كما كان للتفجيرات المرتكبة ضد كنائس في بغداد أو غيرها. وكل ذي إنصاف يدين تلك الجرائم أينما ارتكبت.
وفي مستهل هذه السنة الميلادية ارتكبت جريمة تفجير ضد كنيسة في الإسكندرية، وذهب ضحيتها أبرياء غالبيتهم من المسيحيين، وهذه الجريمة يستنكرها بشدة كل العقلاء المنصفين من المسلمين وغيرهم. وعند كتابة هذه السطور ما زالت الجهات الأمنية المصرية تبذل جهوداً يُرجى أن يُكتب لها التوفيق لاكتشاف الجهة، أو الجهات، التي دبرتها أو تقف خلفها. على أنه من الواضح أن الجهة المستفيدة الأولى في إثارة الفتنة بين مسلمي مصر ومسيحييها هي أعداء أمتنا بعامة وأعداء مصر بخاصة، وليس هناك من عدو لهذه الأمة ولمصر أشد من الصهاينة رغم وجود اتفاقية معهم وصفها عدد من زعمائهم بأنها كانت نصراً لهم لا يساويه عظمة إلا إعلان قيام كيانهم العنصري على أرض فلسطين، ومن يتأمل تاريخ علاقة ذلك الكيان بمصر يجد أنه سُطر بمداد من الحقد البغيض، ابتداء من الحرائق التي ارتكبوها في القاهرة عام 1955م، ومروراً بأمر رئيس أركان جيشهم، إليعازر، الجنود المصريين المأسورين في حرب 1967م بأن يتمددوا على الأرض، ثم جعل المجنزرات تمشي على أجسادهم حتى ماتوا، وما زالت الجهات الأمنية المصرية - بعد اتفاقية كامب ديفيد- تكتشف بين آونة وأخرى شبكات تجسس صهيونية في ربوع الكنانة.
ولم يقتصر حقد الصهاينة الدفين على مصر في ارتكاب جرائم داخل أراضيها، بل امتد ليشمل ارتكاب أعمال ومؤامرات ضد أمنها خارج تلك الأراضي، وممارستهم التآمرية في أعالي نهر النيل، الذي هو شريان حياة مصر، أحد البراهين الواضحة على ذلك الحقد الصهيوني الدفين. ومن المعروف أن السودان هو العمق الإستراتيجي المهم لمصر، وأن وحدته وأمنه أمران في غاية الأهمية لها، ولقد صرَّح أخيراً أحد قادة الحركة الانفصالية في جنوب السودان أن القادة الصهاينة كانوا أول من حرضوهم على القيام بحركتهم الانفصالية، وقدموا الدعم لانطلاقتها. ومع مرور الأيام تكثف وجود الخبراء الصهاينة، عسكريين ومدنيين، في أراضي الجنوب السوداني.
وإذا كان من أهداف الصهاينة الشريرة تمزيق أوطان أمتنا كما خطط لتحقيق ذلك أول رئيس لوزراء كيانهم، ديفيد بن غوريون، وبلور ذلك وزير خارجية أمريكا السابق الصهيوني، هنري كسينجر، فإنه لم يكن غريبا على المتصهينين في تلك الدولة تشجيع الأقلية من أقباط مصر البعيدة عن تمثيل أغلبيتهم المحافظة على وطنيتهم في ترابها.. تشجيع تلك الأقلية على القيام بما لا يخدم مصلحة وطنهم، وذلك بأن سُمح لهم بأن يعقدوا اجتماعاً داخل أروقة مجلس الكونجرس نفسه.
ما حدث ضد الكنيسة في مدينة الإسكندرية كان له من ردود الفعل العاطفية ما له في مدن وأمكنة متعددة داخل الأراضي المصرية، لكن الإسراع في اتخاذ المبادرات المتعقلة من قادة الزعماء الدينيين والسياسيين من المسلمين والمسيحيين كان عملاً إيجابياً محموداً يؤمل أن يفشل نوايا من لا يُكنون لمصر العزيزة إلا الحقد والكراهية.