أحمل لهذه الدولة البلقانية الجميلة ذكرى ليلة ممطرة قاسية بطقسها ومؤلمة لحياة الإنسان المسلم مواطن هذه الجمهورية الصغيرة، حينما كانت إقليماً مقهوراً في عهد يوغسلافيا التيتوية.
في ربيع عام 1970م توجهت وزميل لي من اسطنبول بداية لرحلتنا بالسيارة، ولأول مرة قاصدين النمسا، وكنا مضطرين (جغرافياً) أن نمر بدولة يوغسلافيا ومنحنا تأشيرة (خارج) جواز السفر بقطعة ورق صغيرة يحق لنا بموجبها الإقامة ولمدة (48) ساعة. ومررنا باليونان ومنها مقدونيا وبلغنا إقليم كوسوفو ليلاً، وكانت المدينة التي استقر قرارنا المبيت فيها صغيرة وبعد جهد طويل عثرنا على مكتب السياحة في المدينة وعلمنا أن السكن في المدن الاشتراكية الصغيرة منها باستضافة زائريها في غرفة خاصة في بيوت المواطنين، وذهبنا مع دليلنا السياحي لأحد المساكن الصغيرة، وبعد أن دخلنا حديقة المنزل الريفي أخرج الدليل مفتاحاً وفتح باب المنزل دون استئذان من أهله وتضايقنا جداً من إزعاج ساكنيه في آخر الليل بدخولنا المفاجئ لمنزلهم، وأشار الدليل على أكبر الغرف لنسكنها وبتنا خجولين في ليلتنا تلك ضيوفاً رغم إرادة أصحاب البيت حسب الطريقة الاشتراكية.
وفي الصباح وجدنا الفطور معداً من قبل أهل الدار، وبلغة مكسرة فهمنا أن أفراد العائلة زوج مهندس كهربائي، وأم البيت (سائقة) لحافلة نقل العمال، والولدان يدرسان في المدرسة الابتدائية، وشيخ كبير والد الزوج خصص له (بلكونة المطبخ) لسكنه! وبعد خروج الزوج والزوجة للعمل اطمأن لنا الشيخ المريض حين تأكد أننا من بلد الحرمين الشريفين، فبكى وقال: إننا نعيش حياة العبيد مكسورين لا نستطيع أن نمارس شعائرنا الإسلامية والجامع الوحيد في المدينة مهجور لا يعلو منه أذان ولا تقام به صلاة، ونحن في إقليم كوسوفو كلنا مسلمون، والصرب يشكلون 5% من السكان البالغ عددهم مليونين ونصف المليون تنحدر من تركيا وألبانيا، كل خيرات الإقليم تصدر إلى بلغراد، ولدي وزوجته يتقاضيان خمسين دولاراً، ومحرومون من الفواكه والخضار المنتجة وبكثرة في إقليمنا، كل خيراتنا تذهب للصربيين. وودعناه وعيونه تدمع، وأقسم زميل الرحلة ألا يبيت بإذن الله في هذه الأرض القاهرة للمسلمين!
وبعد اندحار الفكر الشيوعي في الاتحاد السوفيتي وتفكك منظومته الدولية امتد هذا التيار الرافض للمعسكر الشرقي آنذاك، فكانت بداية انحلال اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية الاشتراكية بالمطالبة بانفصال البوسنة والهرسك ومعها كرواتيا، وبعد قمع مسلح من الجيش الصربي وتنفيذه الإبادة الجماعية بشكل لا إنساني لمسلمي إقليم البوسنة والهرسك، وبعون من الله سبحانه وتعالى انسحب الصربيون وأعلن استقلال جمهورية البوسنة والهرسك، وكذلك حقق شعب كرواتيا حلمه الوطني بجمهوريته المستقلة.
وتحركت دول البلقان الإسلامية الأخرى مقدونيا وكوسوفو بتشكيل قوى عسكرية لتحرير أراضيها من التسلط والقهر الصربي!
فتحقق استقلال كوسوفو في السابع عشر من فبراير 2008م بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واشتركت قوات من حلف الناتو لحماية الجمهورية الفتية من تهديد الجمهورية الصربية لاجتياح كوسوفو وإنهاء العهد الجمهوري وإلحاقها بالدولة الصربية. إلا أن البرلمان الكوسوفي أعلن «برشتينا» عاصمة لها وبحماية سبعة عشر ألف عسكري يتبعون لحلف شمال الأطلسي وبتأييد أمريكي عرض استقلال كوسوفو على مجلس الأمن لاستصدار قرار دولي لتثبيت استقلال هذه الجمهورية الصغيرة إلا أن «الفيتو» الروسي أبطل قرار «52» وبمعارضة إسباني خشية من تحريض إقليم الباسك الإسباني للانفصال وإعلان جمهوريته المستقلة.
وتحول ملف إعلان جمهورية كوسوفو لتصويت هيئة الأمم المتحدة ولا بد لذلك أن يتم اعتراف (97) دولة وقد اعترفت بها (72) دولة منها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي والمملكة العربية السعودية واليمن والبحرين، وقد عبر وزير خارجية الصرب معلقاً على الاعتراف بجمهورية كوسوفو قائلاً: «حتى ولا في الأحلام السيئة لن نعترف بجمهورية كوسوفو».
وقد نادى السيد هاشم تاجي زعيم الحزب الديمقراطي في حفل فوز حزبه بالانتخابات البرلمانية وبنسبة (35%) من مجموع الأصوات كل دول العالم وبالذات الدول الإسلامية لإعلان اعترافها بكوسوفو جمهورية مستقلة حتى يتثنى لها نيل الحماية الدولية بانتسابها للأمم المتحدة وتتخلص من تهديد العصا الصربية المرفوعة ضد استقلال هذه الجمهورية البلقانية المسلمة، والتي ينتظر شعبها الصغير الذي لا يتجاوز عدده المليونين ونصف المليون ومعظمهم (92%) من المسلمين الألبان دعم ومؤازرة أشقائهم المسلمين في العالم، وتحت مظلة «منظمة العالم الإسلامي» وأن تتحرك الأمانة العامة لهذه المنظمة العالمية بإطلاق حملة نشطة للاعتراف بجمهورية كوسوفو الحبيسة بين جبالها الخضر!
هيئة الصحفيين السعوديين وجمعية الاقتصاد السعودية