أكتب هذه السطور للشباب الذين لا صلة لهم بحقيقة ماضينا القريب لأنهم قد يتأثرون بمن يحاول تصويره لهم بطريقة تجميلية مخادعة. قبل يومين شاهدت في قناة فضائية امرأة من جنوب السودان تطحن الذرة على رحى حجرية. أرادت الفضائية أن تصف بالصورة الحية وضع جنوب السودان. الناس هناك ما زالوا في العصر الحجري. تركتهم السياسات الخرقاء والتصارع على الزعامات والمتاجرة بالشعارات العقائدية على نفس الحال التي كانوا عليها منذ ضمتهم مصر محمد علي إليها في بدايات القرن التاسع عشر. تركتهم يعيشون مثلما كان أسلافهم يعيشون في العصر الحجري.
الصورة جعلتني أعود ذهنياً إلى طفولتي لأتذكر أنني ولدت أيضاً في العصر الحجري، فوضعت يدي على قلبي خوفاً من أن تعيدني صراعات المستقبل إليه غصباً عني.
حتى مرحلة الستينيات الهجرية كان السكان في قرى المملكة ومدنها الصغيرة يطحنون على رحى الحجر ويخبزون في مواقد الطين وينامون مع بهائمهم في نفس المكان. ما زالت تتردد في ذاكرتي السمعية أهازيج الفتيات النحيلات مرمودات العيون وهن متقابلات على الرحى يتضاحكن ويغنين أثناء الطحن. كان في أغانيهن آنذاك من تلميحات الحب البريئة ما أصبح يحاسب ويعاقب عليه حاليا كإباحية تغريبية.
كان هناك رجال في القرى يعتاشون من قطع الأحجار في المحاجر المجاورة لبيعها رحايا وأحواض مياه وردائد آبار وبهائم. الحياة في طفولتي كانت على نمط العصر الحجري بامتياز، وكانت المرأة تلد عشرة أطفال يموت نصفهم في سنتهم الأولى وتأتي الأوبئة والمجاعات فتختطف أكثر الباقين أما الأمهات فيموت أغلبهن في فترات المخاض أو النفاس.
مع الإرادة القيادية الشجاعة والثروة النفطية حصل الانقلاب المعيشي وتحرك السهم الزمني إلى الأمام، وكانت هناك مطبات ومحاولات إقامة حواجز تثبيط وإعاقة في الطريق. بدأ أفراد قلائل يهربون المذياع مع بطاريته الحجرية إلى الداخل ويستمعون إليه بعيداً عن العيون والآذان. إذا انكشف الأمر يصادر المذياع ويكسر ويتعرض صاحبه للتأديب. ثم جاءت الدراجة (البسكليت) فأسموها حصان إبليس وطاردوا الأولاد في الأزقة وكسروها. افتتحت المدارس وبدأت تنتشر فحوربت لأنها تعلم الجغرافيا ودوران الأرض وكيف تتكون السحب على البحار ثم تنقلها الرياح إلى اليابسة. تسللت مولدات الكهرباء إلى القرى فلعنت لأنها تعود الشباب على السهر وتكشف الأسطح والأحواش. لكن السهم رغم ذلك استمر منطلقاً حتى وصلت الأمور إلى انتشار تعليم البنات والتلفزيون والجامعات والأندية الأدبية والملاعب الرياضية وأصبحت الفضائيات من ضروريات الحياة الإجتماعية، وخصوصاً للذين حرموها بالأمس. لم تفلح العوائق والحواجز في إيقاف السهم الزمني من الانطلاق إلى الأمام.
لكن ثلاثة أحداث فقط استطاعت أن تبطئ بشكل مؤثر جداً من حركة السهم وكانت كلها تنتمي إلى الرغبة الغريزية البدائية في العودة إلى حياة العصر الحجري.
أحداث أفغانستان، تلك التي سميت في بداياتها جهاداً ضد الشيوعية انتهى بها الأمر إلى الاعتراف العلني بأنها كانت حرباً سياسية كبرى تلتقي في المصالح الأجنبية ثم تفترق. أبناؤها الأصليون انتهت بهم الأمور في كهوف تورابورا والهندوكوش. عادوا إلى العصر الحجري كما يتمنون، لكنهم عطلوا المسيرة وسمموا الأجواء وشتتوا شمل الأهل والولد.
أحداث جهيمان ملأت الحرم الحرام بالدماء والأشلاء حتى دحرها الله. لكنها عطلت المسيرة بإدخال الكثير من مفاهيمها في التعايش والحياة إلى مناهج التعليم. اكتشفنا لاحقاً ومتأخراً أن التعليم الذي عودونا عليه لا يلبي متطلبات التنمية الضرورية لحياة الناس، وها هي محاولات تطويرة ما زالت جارية ومنهمكة في إزالة العقبات. كانت أدبيات حركة جهيمان تريد العودة بنا إلى العصر الحجري فانتهت هي إليه، وما زال لها بقايا في بعض العقول الحجرية.
انتشار الإرهاب منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبح علامة فارقة لتصنيف عقلية المسلم في العالم كله. الإرتياب في شخصية وعقلية المسلم شمل كل المطارات والموانئ والفنادق والمطاعم والبنوك والجامعات. استطاع الإرهاب أن يعطل الكثير من حركتنا مع العالم والتبادل معهم، لأنه يريد العودة بنا إلى العصر الحجري.
حالياً يبدو أن إنسان العصر الحجري توارى فقط عن الأنظار، لكنه ما زال بعقليته يتربص ولا يتورع عن استخدام كل الوسائل والمبررات والموبقات. لذلك أنا خائف من العودة إلى العصر الحجري.