قال تعالى:?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?.
كثير من الناس يُقيم بينه وبين الآخرين سورًا يحجزه عن القفز إليهم أو أن يقفزوا هم إليه، لا شيء إنما لأن حرية التعبير عن الرأي حرية مقيّدة، فقط لدى بعض المُهيمنين والذين يعدّون التقدّم مسألة خاصة تتعلق بفئات دون فئات، وأنك إذا ما كنت من الفئة اللا معنيّة فيقتضي عليك قبول مالا تستسيغه، وحتى تعترض أو تقترح يجب عليك أن تفكر ألف مرة قبل إبداء ذلك لأنك بطريقة أو بأخرى ستعرّض نفسك للسقوط من أنظارهم، سيشزرونَ بعينك وستصبح إنسانا مذنبا بحق الولاء لمبادئهم التي لا قاعدة لها..!
من الطيب أن يمتلك الإنسان آراءً فردية، يؤمن ويعتزّ بها، بل إن الدليل على الشخصية السليمة هو قدرة الشخص على تكوين نظرياته الخاصة في الحياة، وأن لا يكونَ عضوًا مسخرا لاستيراد الأفكار الغريبة والمثبطّة للعزائم دون أن يكون لديه الحق في رفض مالا يقبله، أو حتى الحق في إذاعة وترويج ما يطابق هواه، والشيء الأكثر طيباً هو أن تمتلك من الثقة ما يجعلك تناقش وتحلل، أن لا تذعنَ لرغبة ولا لفكرة قبل أن تتمعّن في جوهرها وتقيس أبعادها، الكثير منا لا يدرك حتى الآن، سياسة التعبير عن الرأي، والتي أكره أن أسميها - بالسياسة - لأن هذا المسمّى لا يبعث على الارتياح، بقدر ما يبعث على النفور؛ فالسياسة في إحدى أشكالها إن لم تكن أبرزها صورة كاذبة، لا تلبث أن تستقر على واقع، الشيء الذي لا يخدم الغاية المرجّوة من حرية الرأي، والتي تقتضي الصدق والثقة كمطلب أساسي، إلى جانب الاستشهاد بأمثلة نصوصية أو نماذج بشرية كوّن من خلالها الشخص وجهة نظره والتي تلعب دورا بطوليا في التأثير والإقناع.
نحنُ ونحنُ نمضي في الحياة لا نقابل بالطبع كل من يتفق مع اعتقاداتنا، لا بد أن نصطدم بمن لا يؤمن بما نؤمن، بمن يقلل من شأن ما نعتقد ويحاول أسفا أن يرفع من قدر مبادئ ربما كنا سنأخذ بها لو أنها طُرحت بوقت وأسلوب مناسب، وحتى نمضي مسالمين لا لنا ولا علينا لا يلزمنا تجنب أولئك بحجة الحفاظ على أفكارنا ومما قد يترتب عليها جرّاء اختلاطها بعقول الآخرين، ما يلزمنا هو أن نتجاوب أكثر، أن نروّض أنفسنا على كشف واستعراض فكرنا أمام فكر الآخرين، أن نجعله موضع دراسة ونقد كما نجعل من فكرهم، أن نعي أن التلطّخ بالدماء الباردة، والاعتقادات المزيفة، والعقول الناشفة، والأفكار المستعارة ضريبة التقدّم الفكري والنماء العقلي الاجتماعي.
ما يُدهشني الآن ونحنُ في أوّج مقدمات الانفتاح أولئك الذين رضوا عن أنفسهم وما وصلوا إليهم فتوقفوا عند حد معين، والذين وحينما تستدعيهم الحاجة يتحاورونَ مع من يتفق معهم قلباً وقالباً؛ كي يطمئنوا لسلامة أفكارهم ويجدوا لها محييا وداعما معنويا، فيرمونَ بالتخلف لكل من يخرج عما يرون، رغم من أن ما يرون مجرد رأي يحتمل الصحة والخطأ، رافضين جميع المحاولات في إيجاد نقطة مشتركة تُبنى عليها الدعائم، مثبتين بذلك رفضهم لذات الشخص لا ذات الفكرة.
ومثل هذه التصرفات لا تليق بهذه الحقبة المتأججة التي نعيشها والتي قلّما نجد فيها شراً خالصاً أو خيراً خالصاً، فالضرر لا يحدث دون منفعة، والمنفعة لا تحدث دون ضرر، مما يعني أن الحاجة لعقول متيّقظة تبحث وتلاحظ وتستنبط ضرورة ملحّة، تجّنب صاحبها نكبات الزمن، وتمنحه التلذذ فيما لا يستلذ به الآخرون، تجعله يلتقط من الأحداث والأشخاص ما ينفعه ويُضيف لحصيلته الحياتية اكتشافات منوعة ومُثرية، والأمر ليس معقداً أو مُتلفاً للقوى، فقط تحتاج للتهيؤ على مدار اليوم لأي من كان يرتطم بطريقك يخالفك في التفكير والتشخيص، وأن تبلغ من الدهاء والفطنة ما يمكنك من اقتناص الزوايا الإيجابية والتي بالطبع لن يتفق الآخرون على إيجابيتها، بل وأن تحاول قدر المستطاع على افتراس النوايا، أن تعي أن المسألة ليست في أن تكون معي أو أن تكون ضدي بل في أن تحترم رأيي وأحترم رأيك، هذا حتى نحقق أكبر قدر من عوائد النقاش العقلي وحتى نتقن فن الاختلاف.
ليس بالضرورة أن يكونَ التضارب الفكري انعكاساً سيئاً لتعبيرات المجتمع، وهو قد يكون - لمن أراد التفّكر - رمزاً لتعدد مسالك المجتمع الواحد، والتي بالطبع لن تكون كلها صحيحة أو كلها خاطئة، مسارك صحيح ومساري صحيح لكن هذا لا يعني أني أؤمن بكل ما تؤمن، مسارك خاطئ ومساري خاطئ لكن هذا لا يعني أننا نتفق في جميع أفكارنا، رغم أن النهاية مقصد مشترك، لكنها حكمة من حكم الإله التي سنّها في الحياة، فمن الطبيعي ألاّ يتفق العلماء وألاّ يستوي الجهلاء.
يقول الفيلسوف جون لوك: «ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله».
- القصيم - بريدة
Miss.gh2010@hotmail.com