المقصود بأم الكبائر الاجتماعية هنا ليست الخمر، بل البطالة. وتسمية عدم توافر فرص العمل للقادرين عليه والمؤهلين له بالبطالة قد لا تكون تسمية صحيحة أو على الأقل دقيقة، فالتسمية الأصح هي (العطالة) لأن من يقعد بلا عمل هو في واقع الأمر شخص (عاطل)..
.. وليس باطلا أو بطالا، ولا حتى بطل لتحمله أوجاع الفلس والإحساس بالفراغ والفشل.
ومهمة توفير الوظائف اللائقة والطموحة للمواطنين هي الركيزة الأساس في ما يسمي بالنظام الاقتصادي الحر، ويقاس نجاح أي اقتصاد في العالم الحر بمستوى التوظيف فيه، بل إن بعض الدول الناجحة اقتصادياً التي تحقق معدلات مستويات نمو متزايدة ومستوى معيشة مرتفع، ومستوى توظيف عال تضطر أحياناً لاستقدام، أو فلنقل استلاف، العمالة من دول أخرى. وقد كفل النظام الأساسي للحكم للمواطن في المادة الثامنة والعشرين حق العمل وجعل من مهمات الدولة المنصوص عليها تيسير العمل له: (تيسر الدولة مجالات العمل لكل قادر عليه وتسن الأنظمة التي تحمى العامل وصاحب العمل). وهذا يجعل ذلك واجبا على المواطن أيضا.
وقد نجد عذراً لتفشي (العطالة) في دول فقيرة وغير ذات موارد، دول مثل الجابون أو الصومال أو تاهيتي، ولكنها في دول غنية بالموارد، وذات ميزانيات ضخمة، واستثمارات وفوائض مهولة مثل دولتنا أمر غير منطقي، وعندما نستورد من الخارج عددا يفوق عددنا كمواطنين على شكل عمالة فهذا بلا شك يدل على خلل اقتصادي هيكلي. فلا مبرر لاستيراد العمالة مع تفشي العطالة.
تكلفة العطالة غير المنظورة أهم وأفدح من تكلفتها المنظورة التي تطالعنا للوهلة الأولى. فدولة مثل دولتنا تكفل للمواطن حق التعليم بمختلف مستوياته بالمجان، وتصرف ما يزيد على ثلث دخلها العام على التعليم، ثم لا ينتهي التعليم بالتوظيف فلابد وأن تعاني من عدم التوازن الاستثماري في مجال التعليم. ولا بد أن يكون هناك خلل ما. فالتعليم وجه من أوجه الاستثمار، وإذا لم يكن للتعليم مردود على الدخل العام يفوق أو على الأقل يعادل الاستثمار فيه فهو ببسيط العبارة استثمار خاسر. فالتعليم دون توظيف كالنفخ في سقاء مثقوب غير نظيف.
الأدهى من ذلك هو أن امتداد فترات العطالة لسنوات أو دورات اقتصادية متلاحقة، يؤدي في محصلة الأمر إلى عملية تعليمية عكسية يفقد فيها الذين تم تأهيلهم للعمل مع الوقت هذا التأهيل، ويفقدون مع الوقت مهاراتهم وقدراتهم على العمل فيما يعرف (بفقدان التأهيل) deskilling، وفي ذلك هدر كبير للموارد التعليمية والتدريبية السابقة. والشخص الذي يتم توظيفه بعد فترة عطالة طويلة يحتاج إلى عملية تأهيل جديدة قد تكون أكثر تكلفة من سابقتها. وهو قد يستأنف العمل في وضع نفسي غير مريح، ويفتقد الإحساس بالأمان الوظيفي والأمان المعيشي، فيسهل استغلاله في ممارسات عمليه غير سوية، أو قد ينخرط في مثل هذه الممارسات بإرادته مع سبق تخطيط وإصرار. فالسرعة في توظيف الخريج لا تقل أهمية عن توظيفه.
يضاف لذلك تكلفة استيراد العمالة الخارجية، فما دام هناك أجانب في البلاد يدخلون بفيز عمل، فهناك ببساطة وظائف وأعمال يشغلها هؤلاء. والعمالة الوافدة لا تستثمر عادة في الداخل ولا تستهلك من الداخل إلا لحاجاتها الأساسية فقط، بينما تذهب جميع مدخولاتها للخارج لبلدانها حيث تسهم في حل مشكلة البطالة هناك وترفع المستوى الاقتصادي تدريجياً في بلدانها مما يزيد من تكلفة استقدام مثله في المستقبل. فأسعار العمالة الوافدة ترتفع كل سنتين تقريباً لأن الأوضاع الاقتصادية لبلدانها تتحسن بزيادة دخلها من العملة الصعبة التي تبعثها العمالة المهاجرة. وحسب إحصائيات صدرت في العام الماضي، تم تحويل مائة مليار ريال من المملكة للهند فقط. وهي ذهبت للولايات الجنوبية الأفقر التي تشكل مصدر للعمالة الوافدة لنا. والعمالة الوافدة عمالة ذكية تستغل بأفضل الطرق إحساسها بتزايد اعتمادنا عليها.
الوافد ليس آلة تعمل فقط ولكنه بشر، يأكل ويشرب ويمرض، وله حاجات أخرى، ولذلك فهو يشكل ضغطا مكافئا، أو قد يزيد، على ضغط المواطن على موارد البلاد، فهو يحتاج إلى ماء، وكهرباء، وطرق، ورعاية صحية وغير ذلك. وكما هو معروف فبلادنا قد يتوافر فيها النفط والمال ولكنها في الواقع فقيرة لموارد أهم من النفط مثل المياه، والمساكن، والزراعة. فنحن، بسبب العمالة الوافدة نستهلك ضعف ما نحتاج من الماء، والكهرباء، والأدوية وغير ذلك.
وللعطالة، والوجه الآخر لها العمالة الوافدة، تكلفة اجتماعية باهظة جداً. فالعطالة تفقد العاطل احترامه لذاته، وتجعله شخصاً لا مبالياً، وهي تضعف الروح الوطنية فيه، وقد تدفعه لا سمح الله لأتون الجريمة بكل أشكالها، وقد يكون بين العمالة الوافدة عناصر متمرسة في ذلك تستغله وتدفعه، لا سمح الله، للعمل لما فيه ضرر كبير لمجتمعه. وهي العامل الرئيس في الأمراض الاجتماعية الأخرى مثل الفقر، والعنوسة، والتسكع، وتناول المسليات والمهلوسات التي تنسي الإحساس بالواقع.
ومما فاقم البطالة في السنوات الأخيرة بعض السياسات الاستثمارية المتسرعة وغير المدروسة التي جعلت أهم أهداف الاستثمار الأرقام والإحصائيات فقط. فالدول تشجع الاستثمار من أجل توفير الوظائف لمواطنيها، وعندما تأخذ مالاً لتستثمره في أوربا أو اليابان أو ماليزيا مثلاً فإنك لا تستطيع اشتراط عدد الفيز لجلب عمالة متوافرة في الداخل. وعادة ما يكون الاستثمار الوافد في مجالات جديدة غير مطروقة محلياً، ولا تشكل تنافساً أو مزاحمة للاستثمار الداخلي، لأن الاستثمار غير ممكن في مجالات تكون فيها مزاياً المستثمرين المحليين عائقاً أمام المنافسة. وهي تكون في مجالات محددة غير حيوية، فأنت كمستثمر أجنبي لا تستطيع أن تتملك في شركات معينة أكثر من نسبة محددة غير ذات أهمية، وبعض المجالات كالصناعات الحيوية والمقاولات مغلقة تماماً أمام الاستثمار الأجنبي.
الاستثمار الوافد لدينا، مهما أحيط من دعايات وتصنيفات ومقارنات، لم يوفر وظائف لمواطنينا بل كثف جلب العمالة الوافدة بشكل أكبر من ذي قبل ليحصد ما تبقى من الوظائف الموطِنَة. وهو إما أدخل شركات أجنبية أضيف لآخر اسمها التجاري عبارة (السعودية)، أو أتاح لوافدين موجودين أساساً في المملكة لسنوات طويلة كموظفين فتح شركات باسمهم، بعضها وهمي، لاستيفاد أقاربهم وذويهم لينافسوا أولادنا على فرص عملهم. وقد تزايدت مؤخراً مظاهر الغنى وسعة الحال على بعض الوافدين في مدننا، ومنهم وافدون حديثاً، بينما ازدادت مظاهر الفقر وضيق الحال والأقساط وغيرها بين المواطنين. وبالطبع ارتفع مع ذلك ترتيبنا في جدول الجاذبة للاستثمار.
العطالة أكبر مرض اجتماعي وهي مصدر جميع الأدواء الاجتماعية تقريبا وهي المسمار الضخم الحقيقي الذي يعطل دوران عجلة الاقتصاد، لأن رعاية أفراد غير منتجين يشابه العد العكسي في المنظومة الرياضية. والبطالة في المجتمع مثل الأنبوب عديم التهوية إذا ازداد الضغط فيه فقد ينفجر لا سمح الله محدثا كثيرا من الأضرار.
وفي الختام فنحن نتمنى أن يكون عام 2011 عام العمالة لا العطالة في مملكتنا الحبيبة. وأن يعود بعض رجال الأعمال لرشدهم ويراجعون حساباتهم فيعملون على توظيف أبناء وطنهم لأن ذلك أجدى لهم وأربح.