كتبت قبل أكثر من شهرين تقريباً مقالاً عنونته «البناء القيمي السعودي في خطر» ولم يكن لي أن أجازف في مثل هذا الجزم، وأن أعمم الحكم بهذه الصورة لولا الشواهد والأدلة التي جمعتها سواء من ثنايا الدراسات والأبحاث المتخصصة أو البرامج الإعلامية المختلفة أو من خلال المشاهدات الميدانية والكتابات الصحفية التي سبرت أغوار هذا الموضوع الهام والحساس، إذ إنني كنت وما زلت وسأبقى مهتماً بهذا الموضوع الحيوي والمتجدد، لأسباب عديدة لعل من أهمها صلته المباشرة بتخصصي الدقيق» الثقافة الإسلامية « فالثقافة - في نظري - هي بمثابة الإطار المرجعي للنسق القيمي في المجتمعات الإنسانية صغيرة كانت أم كبيرة ومن بينها بل على رأسها مجتمعنا السعودي.
لقد تمنيت في يوم من الأيام، بل وسعيت من خلال تواصلي الشخصي مع عدد من المؤسسات ذات العلاقة سواء الخاصة منها أو الحكومية إلى تأسيس مركز متخصص في قياس التغيرات التي طرأت على القيم المختلفة في مجتمعاتنا المحلية منذ عهد المؤسس حتى اليوم، وحاولت دراسة أثر هذا التغير على هويتنا ومسار تنميتنا المستدامة، وكيف لرجال التربية وأهل الإصلاح ضبط بوصلة التغيير حتى لا تغرق السفينة وتحل الكارثة لا سمح الله، وهذا قادني قسراً إلى الاطلاع على التجارب العالمية والعربية ذات الصلة المباشرة بالقيم، كما دفعني للتعرف على جمع من المهتمين بدراسة القيم المختلفة في المجتمعات سواء أكانت قيماً دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو جمالية فنية أو علمية وفي ذات الوقت كنت أبحث وما زلت عن آلية صحيحة ودقيقة لقياس مثل هذه التغيرات غير المنضبطة وربما المخادعة في كثير من الأحيان، ولا أكتم القارئ الكريم سراً بأنني وجدت عدداً من نتائج الدراسات المتخصصة المحكمة مبنية على الانطباع الذاتي والمشاهدات العرضية التي قد تخدع صناع القرار وتضر بمسار البناء التنموي بشكل ملحوظ، كما أنني اصطدمت بعقبات وواجهت تحديات عدة ليس بمقدور باحث أو حتى مجموعة من الباحثين التغلب عليها، ولذا كان ميلاد كرسي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز للقيم الأخلاقية بالنسبة لي وللباحثين في القيم الإنسانية حدثاً مفصلياً هاماً سيكون له - بإذن الله -الأثر الإيجابي في العصر الراهن وفي مستقبل الأيام، خاصة وأن المتبني له ورافع رايته وداعمه والواقف خلفه والمتابع لحركته البحثية والميدانية «رجل الأمن الأول» صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية منذ أكثر من ست وثلاثين عاماً، وهو من هو في معرفة وقياس وإدراك حجم التغيرات التي مر بها مجتمعنا السعودي سواء جراء أسباب خارجية أو نتيجة تحولات مجتمعية داخلية، إضافة إلى هذا فالحاضن الأساس لهذا الكرسي المتميز هي جامعة المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله.
إن القيم على حد تعبير «روكيش» أحد المؤشرات الهامة لنوعية الحياة ومستوى الرقي أو التحضر في أي مجتمع من المجتمعات ولذا كان الاهتمام بدراستها والتركيز عليها أمر غاية في الأهمية عند كثير من المجتمعات المتقدمة العالمية، إضافة إلى أن كثيراً من الباحثين المعاصرين أكدوا في كتاباتهم على وجوب الاهتمام بدراسة العمليات المعرفية التي تقف وراء تقييم الفرد واختياراته وتبنيه لقيم معينة دون غيرها وكيف ترتقي هذه القيم وما علاقتها بالسلوك، وجزما سيغطي الكرسي كل هذه الأبعاد ذات الصلة المباشرة بأمن واستقرار المجتمع السعودي فكرياً وقيمياً وسلوكيا.
إنني أتطلع مثل غيري أن يتوصل القائمون على هذا الكرسي إلى منحنى التغيير القيمي في مجتمع الشباب السعودي خاصة « ذكوراً وإناثاً « واتجاهاته وتعرجاته ويبينون أسبابه ومسبباته، ويؤسسوا لقاعدة معلومات متكاملة تشمل جميع مناطق المملكة تحدد ملامح ومعالم البناء القيمي المطلوب، وترتيب سلم الأولويات القيمية في وقتنا الراهن، ويعملوا جاهدين إلى تعزز قيمة الانتماء الوطني مثلاً في جانب القيم السياسية، والتسامح الديني في «الديني»، والتذوق في «الجمالي «، والمنطق والموضوعية والعقلانية في القيم» العلمية»، وبر الوالدين وحقوق الجار و... في القيم «الاجتماعية»، أما عن القيم الاقتصادية فإن قيمة العمل لدى الشباب السعودي تحتاج إلى بعث وإحياء ولا يمكن لأحد أن يقلل من أهمية هذا الصنيع فالعمل اليدوي الذي أميت ومن ثم دفن في نفوس شبابنا فضلاً عن كونه ضرورة تنموية هو حاجة شخصية باعتباره وسيلة التطور والارتقاء والبناء وأساساً لتوكيد الذات وتقديرها، ومصدراً لإشباع حاجات الفرد إلى الإنجاز والإبداع والتفوق والأمن والاستقرار وإلى لقاء والسلام.