كتبت في الثلاثاء 29-1-1432هـ عن الشخصيات الثلاث التي كُرِّمت خلال أسبوع واحد، وكنت أحدَ المدعوين والمداخلين في بعضها. وفي مساء الخميس 2-2-1432هـ أذيع نبأ تكريم الفقيد «غازي بن عبدالرحمن القصيبي»
في المهرجان الوطني للتراث والثقافة بوصفه شخصية العام وسيُمنح وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى أو وشاحه - شَكَّ الراوي -، وفي الثالث عشر من هذا الشهر ستُعلن أسماءُ الفائزين بجائزة الملك فيصل العالمية، وفي ذات المساء يكرّم «نادي الرياض الأدبي» الأديب العلاّمة عبدالله بن محمد بن خميس مشاركاً «صحيفة الجزيرة» التي أصدرت كتاباً احتفائياً عنه، ولقد توخّيت من قبل التماس فلسفة هذه الخليقة في بلاد أذن الله أن تكون سبّاقة إلى مكارم الأخلاق، إذ لا تنفك من استباق الخيرات وتتويج الأحياء ونثر الورود على قبور الخالدين، والقصيبي الذي فجع المشاهد كلها بوفاته في ذروة عطائه لمَّا يزل حاضر المحافل الثقافية والإعلامية، وكأنّ ذوي الشأن نادمون على رحيله قبل أن يشهد ما يكنّه العلماء والأدباء والإعلاميون وسائر المؤسسات الثقافية والإعلامية له من محبة وتقدير وإكبار.
لقد تنادى الكتَّاب وتسابقت المنتديات وتبارت الصحف والمجلات واكتظت المواقع في التقاط عدد من زوايا شخصيته المتعدّدة المواهب والاهتمامات، وجماع ما أبداه الكتّاب حواه كتاب «الاستثناء» وما كان لمجتمع وفِيٍّ أن يفرغ من الاشتغال بهذه الكفاءة الوطنية، ولهذا بادر «المهرجان الوطني للتراث والثقافة» إلى تكريمه ليكون حلقة مضيئة في سلسلة التكريمات التي تدفّقت بالكلمات والقصائد والكتب والمحاضرات، والذين لا يعرفون الفقيد عن قرب قد يثيرهم تواصلُ التكريم وتنوعُه، لقد وهب الفقيد ما وسعه من جهد ووقت ومال لوطنه ومواطنيه، وعاش همَّ أمته، يكافح وينافح ويشيد. ولقي في مسيرته تلك نصبا، ولأنه صاحب رسالة، فقد تقبّل الصعوبات بصدر رحب، ولم يعبأ بكلِّ المثبطات، وميزة العظماء أنّ الأيام كفيلة بالكشف عن معدنهم الكريم، فالذين يتحفّظون على بعض ممارساته لم يتردّدوا في مباركتها بعد مماته، والذين يقفون على الحياد من آرائه أثناء طرحها بادروا الانصياع لرؤيته، وسيظل القصيبي في صعود وكأنّ الشاعر عناه بقوله:
«عُلوٌّ في الحياة وفي الممات
لحقٌّ أنت إحدى المعجزات»
فالقصيبي لم يعش في الظل، بل ظلّ طوال حياته في بؤرة الأضواء متجاذباً مع اللدات والمجايلين مختلف الآراء والتصوّرات، ولم تشغله تلك النجاحات العملية والإبداعية والعلمية عن أداء رسالته الوطنية.
وكم سمعت ورأيت من يأخذه العجب من قدرة القصيبي على استقطاب مختلف الأطياف والسيطرة على القواسم المشتركة، والذين لا يملكون الإمتاع والإقناع والاستمالة في خطاباتهم قد لا يسلِّمون له بسهولة، وقد يقترفون التقليل من شأنه محيلين نجاحاته وتجلياته إلى جاذبيته الشخصية لا لشيء آخر، بوصفه شخصية «كارزمية» و«الكاريزما» مصطلح غربي لا ينطبق بحذافيره على شخصية قيّدت نفسها في ذرى الإسلام محبة وإعجاباً وامتثالاً لأنّ «الكارزمية» نمط من أنماط سلطات ثلاث كما حددها «ماكس فيبر» وهي كما يقول علماء «الانثروبولوجيا»: (هبة من السماء) ويطلقونها على الأنبياء والأبطال والقادة، وعلى كل من يحقق نجاحات متواصلة دون أن تكون له قوة أو يأوي إلى ركن شديد، ولكم نقول عن بعض من يبهرنا بنجاحاته: إنه شخصيه قيادية.. أو شخصيته موهوبة، ولقد تَصْرِفُنَا جاهزيات الأحكام والإحالات عما يتمتع به المتميّز من إمكانيات ذاتية غير الجاذبية الشخصية، والقصيبي ممن جمع فأوعى، فلم يكن «كارزمياً» وحسب، ولكنه ملء إهابه إمكانية وأهلية.
فهو شاعر حاضر البديهة سلس العبارة عميق الفكرة بعيد الرؤية، لا ترى في شعره العمودي عوجاً، ولا في شعره التفعيلي أَمْتا، مستوى النسق معتدل السياق، يجمجم عما في نفسك فكأنه يتحدث باسمك ويجسِّد مشاعرك، وما تمنى دَسَّه في التراب من المقطعات التي تعجل فيها لا تعاب عبارتها ولا ينتقص تشكيلها ولكنه بنظرته الطموح يتقالّ عمقَ رؤيتها.
وهو كاتب عفوي، رقيق الحواشي، دقيق الملاحظة، جدلي التعبير، مثقف النص، يغري الأحداث ويركب متونها. وهو قاص لبق يندس في عباءة الأبطال ويتراءى في ملامح الشخوص، حتى لكأنّ رواياته وحكاياته وقصصه تتعالق وتتعانق مع الإبداع السِّيري، فهو يكتب ذاته بذاته.
وإبداعاته الشعرية والسردية كما شعر «المتنبي» مغروس فيها بحيث يبدو لك من بين العبارات والكلمات،
وهو إداري محنك يطلق يد مرؤوسيه ولكنهم لا يبرحون فلكه، مستشرف للمستقبل، عاشق للمبادرات، مولع بالتجريب، حفي بالمغامرات،فحين أدرتُ إحدى أماسيه الشعرية قلت فيما قلت:
«ما عرَّس في مكان إلا ترك ما يسهر الخلق جرَّاه ويختصم» فما كان منه - وهو اللماح - إلا أن ابتسم، ونبّه القوم إلى مفهوم «التعريس» لغوياً ليكلا يظن بنا الظنون.
ذلكم هو غازي بن عبدالرحمن القصيبي الذي شغل المشاهد كلها حباً، وأشْعَلها بعد مماته، وحفر اسمه في ذاكرة الأمة ونام قرير العين في لحده الذي أرجو من الله الرحيم الكريم أن يجعله روضة من رياض الجنة، وترك الناس يدركون ليلهم فيما ترك من قول أو فعل.