تعلمت أيام الطلب -ولا زلت-، أن من آداب الخلاف: حسن الظن، وعدم التنابز بالألقاب. وأنه كما يتباين الناس في ألوانهم، وأشكالهم، وألسنتهم، وأخلاقهم تبايناً عظيماً. فهم
-كذلك- يتباينون في أفهامهم، وعقولهم، ومداركهم. وأن بقاءنا إخوة في الدين، مع اختلافنا في المسائل الاجتهادية، خير من تفرقنا، وتمزقنا، وبقائنا على خلافاتنا.
من أشد ما يظهر من اختلافات سلبية، أدت إلى جدال على مستوى الساحة الداخلية، القدح بعلماء سابقين، والتزهيد بعلماء معاصرين، والتقليل من احترامهم، وتقديرهم في صدور الناس، سيؤدي -بلا شك- إلى تنفير القلوب عنهم، وعدم الاستماع إليهم، أو الصدور عن أقوالهم. كما أنه مجلبة لغضب رب العالمين، كما في الحديث القدسي، عند البخاري: «من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب».
إن من أعظم صور البلاء على الأمة، أن أناساً كتبوا بأقلام، ظنوا أنهم يكتبون بمداد البحر. ورأوا في أنفسهم أنهم يحسنون صنعا، فناطحوا شمم الجبال؛ لينالوا ذراها المرفوعة. ولمزوا أكابر العلماء، بعد أن سفهوا أقوالهم بالنقد اللاذع، واستهجنوا آرائهم، وانتهجوا سياسة التضييق بمذاهبهم، والتحقير من شأنهم، وهدر مكانتهم. ورجمهم بالجهل -تارة-، وعدم علمهم بالواقع، وفقههم به -تارة أخرى-.
إذا كان الله قد أمرنا عند مناقشة أهل الكتاب، أن نناقشهم بالتي هي أحسن: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}. فكيف سيكون الحال في مناقشة أهل العلم الشرعي؟. أليس الأدب، هو: الأخذ بمكارم الأخلاق، والوقوف مع المستحسنات، وتعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك!. فلماذا تحول بعض كتابنا في نقاشهم مع كبار العلماء، فيما يذهبون إليه من توزيع الاتهامات، وإطلاق الشتائم، والتشنيع عليهم، والولوج في نواياهم، واعتماد المبالغة، وذلك من خلال تلاسن كلامي، ومهاترات لفظية. اعتمدت التهريج، والسطحية، والجدل العقيم من أجل الانتصار للنفس، حتى ذكرتنا تلك الكتابات، بحروب داحس والغبراء.
إن علماءنا هم أركان الشريعة، وأمناء الله في خلقه -ولذا - فإن مد جسور الود معهم، والانفتاح على آرائهم بلا ازدراء، ولا تحقير. وتوسيع مساحة المشترك دون وصاية فكرية، أو بما يتنافى مع آداب الحوار، ويتجاوز حدود اللياقة، بعيداً عن النقاش العلمي المثمر، مطلب مهم -ولا شك- إذ إن إنصاف المخالف، والعدل معه، ونقده بالحق، مع ذكر محاسنه، ركيزة من ركائز فقه الاختلاف؛ ليكون اختلافنا اختلاف تكامل، لا اختلاف تضاد. وذلك في المسائل التي تتجاذبها الأدلة، ويكون لها حظ معتبر من النظر. قال -العلامة- ابن القيم -رحمه الله-: «فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباس، والتحري، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية؛ لأنه إذا كان الأصل واحداً، والغاية المطلوبة واحدة، والطريقة المسلوكة واحدة، لم يكد يقع اختلاف. وإن وقع كان اختلافاً لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة».
يستحيل أن يكتمل نسيج الحياة، فالاختلاف البشري إرادة إلهية. والدين إنما توحدت جذوره؛ ليختلف أعضاؤه، فيثمر. ولن يتشكل حراك اجتماعي إيجابي، دون أن تكون هناك مشاركة بمختلف شرائح المجتمع. بعيداً عن الاستعداءات، والخلط في التصورات، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.