أتى على بلادنا الغالية حينٌ من الدهر عانت خلاله محنَ التمزّق السياسي والاجتماعي والجغرافي قبل أن يقيّضَ الله لها ابنَها البار، والفارس الأغر عبد العزيز بن عبد الرحمن، طيب الله ثراه، ليحيل فرقتها وحدة، وفتنتها ألفة، وظُلمها عدلاً وأمناً.
ولما كان الله قد وهب عبد العزيز إشْراقة الإيمان وبأسَ العزيمةِ وسداد الرأي، ليصنع ما صنع، فقد شدَّ أزره برجال أوفياء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجاهدوا في الله حقَّ جهاده، منهم من قَضَى نحبه وقليلٌ منهم ينتظر، كانوا مخلصين له ولرسالته حتى النَّفَس الأخير، زهدوا في حُلو الحياة ومتاعِها، فأرخصوا كلَّ نفيس، نصرةً لكلمة الله ثم وحدة الوطن.
والآن، وبعد مرور أكثر من ثلثي قرن على قيام هذا الكيان الخالد، تراود النفس نزعة تأمَّل حيال أولئك الرجال: من هم؟ وماذا يصنع الأحياء منهم؟ ثم، وهو الأهمّ، ماذا صنعنا نحن من أجلهم؟!
لقد ذهب الأموات منهم إلى دار الخلود بإذن الله، وبَقِيَ منهم مَنْ بقي ينتظر دعوةَ الأجل المدوَّن في الكتاب، وأحسب يقيناً أن لهم جميعاً في أعناقنا حقاً لا يدركه إنكار، وعرفاناً لا يقهره نسيان، أحياءً كانوا أو أمواتاً! فنحن الذين ورثْنا جُهدهم وجهادهم، ونحن الذين حَصدْنا ثمار تضحياتهم حتى صِرنا إلى ما صِرنا إليه بفضل من الله: أمناً ورخاءً واستقراراً، ومع ذلك لا يكفي أن يقترن ذكرهم وذكراهم في نفوسنا بمناسبات عابرة، بل يتعيّن اتخاذ خطوات معيّنة تكرِّس لهم في أفئدتنا العرفان بالفضل والتقدير للتضحية التي ساقوها رخيصة، فداء لوحدة واستقرار هذا البلد الغالي.
لا أنكر قط قيمة الجهود التي بُذِلت وتُبذل من قِبَل أكثر من جهاز يعنيه الأمر في الدولة لتكريم هذه الفئة من المجاهدين ماضياً وحاضراً، لكنني أتمنى أن يتخذ التكريم مساراً وطنيّاً يُسمع ويُرى ويُقرأ بل ونشارك فيه نحن معشر المواطنين بالممكن والمعقول.
ومن بين الاقتراحات التي يمكن التفكير فيها على هذا النحو ما يلي:
أولاً:
النظر في إنشاء صندوق برٍّ خيري بتمويل من الدولة أيّدها الله، ويسهم في دعمه من يشاء من أهل الخير في هذا البلد الأمين، أفراداً وجماعات، لرعاية أسر المحتاجين من المجاهدين الأحياء منهم والأموات على نحو يحفظ لهم كرامتهم، ويعبِّر عن العرفان لهم، وإذا كان هذا البلد المعطاء قد أثبت ويثبت شهامته ووفاءه بدعم الكثير من مشروعات الخير داخل المملكة وخارجها، فلن يضنَّ بتأسيس مثل هذا العمل النبيل، وأن يشارك رواد الخير من أهل هذا البلد في دعمه تكريساً للعرفان بما صنعه أولئك المجاهدون.
ثانياً:
إصدارُ دليل شامل بأسماء من يمكن حصرهم منهم، أحياءً كانوا أو أمواتاً، مع ما قد يتوفّر عنهم من نُبذ أو نوادر تاريخيةٍ معيّنة تبرزُ الجوانب البطولية في عطائِهم.
ثالثاً:
بالنسبة لمن بقي حيّاً من المُجاهدين، فقد يكون من الملائم قيام جهة كدارة الملك عبد العزيز بالتعاون مع جهات أخرى ذات علاقة، برصد مواقعهم، والتعرّف عليهم، عن كثب، واستطلاع ما قد تختزنه أفئدة بعضهم من ذكريات ومواقف هامة تضاف إلى رصيد المعرفة التاريخية المتصلة ببعض مراحل تكوين هذا البلد الأمين، وتستخدم الجهة المعنية ما تراه من وسائل ملائمة في هذا السبيل. أقول هذا رغم ظني غير اليقين بأن الدّارة قد سنَّت مبادرة كريمة في هذا الصوب قبل حين، وإذا كان هذا الظنُّ صحيحاً، فأرجو أن تستمر المبادرة وتؤصل مؤسسياً بما يحقق لها المزيد من الإنجاز.
رابعاً:
قد يكون من الملائم تخصيص جزء من وقائع اليوم الوطني أو مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة هذا العام أو العام القادم بإذن الله للإشادة بدور المجاهدين، الذين رافقوا مسيرة المجاهد الأكبر، الإمام عبد العزيز رحمه الله، ودعوة بعض الأحياء منهم للحديث عن المناسبة الغالية عبر وسائل الإعلام المتفرقة، وبأساليب متباينة تُقرَّر في حينها.