في مساء هذا اليوم، يتم -بمشيئة الله وتوفيقه- جني ثمر من ثمار جائزة الملك فيصل العالمية، وذلك بإعلان صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، رئيس هيئة الجائزة، أسماء الفائزين بها هذا العام في فروعها الخمسة، وهي: خدمة الإسلام..
.. والدراسات الإسلامية، والأدب العربي واللغة، والطب والعلوم.
لقد كان من توفيق الله لأبناء الملك فيصل -رحمه الله- وبناته أن قاموا عام 1396هـ/ 1976م بإنشاء مؤسسة الملك فيصل الخيرية، هادفة إلى تخليد اسمه، وإلى الإسهام بالقيام بما كان يسعى إليه من خير لأمته وللبشرية. وأصبحت هذه المؤسسة - بفضل الله - من المؤسسات الخيِّرة العملاقة. ومن جوانب ذلك التوفيق أن قَرَّر أولئك الأمراء الكرام، في العام التالي لإنشاء المؤسسة، أن تنبثق منها جائزة عالمية باسم والدهم تمنح كل عام تقديراً للجهود الرائدة النافعة للبشرية، دعوة طيبة، أو فكراً نيِّراً، أو ممارسة بنَّاءة، أو ريادة علمية ذات نفع عظيم لتقدم الإنسانية كلها. وكانت، في بداية انطلاقتها، تمنح في ثلاثة فروع هي: خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، والأدب العربي. وقد مُنِحت أول مرة في هذه الفروع الثلاثة عام 1399هـ/ 1979م. ثم أُضِيف إلى الفروع الثلاثة فرعان أحدهما في الطب والثاني في العلوم. وفي السنوات الأخيرة وُسِّعت دائرة فرع الأدب لتشمل اللغة العربية أيضاً.
ولقد فاز بجائزة الملك فيصل العالمية بفروعها الخمسة حتى الآن 209 من 40 دولة في العالم: في خدمة الإسلام 38 من 20 دولة، وضمن هذا العدد 5 مؤسسات خيرية، وفي الدراسات الإسلامية 30 من 13 دولة، وفي الأدب العربي واللغة 42 من 13 دولة، وفي الطب 55 من 11 دولة، وفي العلوم 44 من 11 دولة.
وللمرأة دور واضح في الجائزة، مُحكَّمة، ومشاركة في لجان الاختيار العلمية، التي لها القرار النهائي في منح الجائزة أو حجبها، وفائزة. وقد فازت بها - خلال سنوات مسيرتها - ثماني نساء: أربع في الأدب العربي، وثلاث في الطب، وواحدة في الدراسات الإسلامية.
ولَعلَّ مما تحسن الإشارة إليه، ويوجب شكر الله عليه، أن جائزة الملك فيصل العالمية، التي ما زالت فتيةً في عمرها، قد وُفِّقت في أن تكون لها ريادة بين الجوائز العالمية الكبرى في تكريم من حققوا إنجازات علمية رائدة في العالم، وبخاصة في مجالي الطب والعلوم. فستة عشر من الذين فازوا بها في أحد هذين المجالين نالوا - بعد فوزهم بها- جائزة نوبل، مثلاً، على العمل الذي فازوا بها عليه، وعدد آخر من الذين فازوا بها نالوا - بعد فوزهم بها - جوائز لا يَقلُّ مستواها عن جائزة نوبل من الجانب العلمي.
ولكل فائز، أو فائزة، بجائزة الملك فيصل العالمية ريادة خاصة مُتميِّزة في إنجاز الكثير مما ينفع الناس ويمكث في الأرض مثرياً المعرفة الإنسانية العامة، و مُعمِّقاً المعرفة التخصصية الدقيقة. وكل ريادة لفائزة أو فائز جديرة بالحديث عنها، لكن حَيِّز المقالة لا يتيح إلا إشارة مختصرة إلى أمثلة من الفائزين أو الفائزات. ولعلَّ من المستحسن الاكتفاء بالإشارة المختصرة إلى فائزَين وفائزتين فقط في مجالي الطب والعلوم. أحد الفائزين غير عربي والثاني عربي الأصل أمريكي الجنسية. الأول فاز بجائزة الملك فيصل بالعلوم، ثم نال جائزة نوبل على العمل نفسه، والثاني نال جائزة الملك فيصل في العلوم، ثم نال جوائز كبرى منها ما هو في مستوى جائزة نوبل. وإحدى الفائزتين عربية الأصل فرنسية الجنسية نالت جائزة الملك فيصل في الطب، ثم فازت بجائزة نوبل على العمل نفسه. أما الثانية فأمريكية فازت بجائزة الملك فيصل في الطب، ثم نالت جائزة لاسكار في الطب والميدالية الوطنية للعلوم، وهي أكبر تقدير علمي أمريكي.
أما الفائز الأول من اللذين أُشير إليهما فهو البروفيسور ثيودور هينش. وهو ألماني الجنسية وقد وُلِد عام 1941م، وعاصر في طفولته الحرب العالمية الثانية التي ألحقت بوطنه الكثير من الدمار، وعانى منها وبسببها كثير من البشر أنواعاً من الأهوال والنكبات. وحينذاك أمضى كثيراً من الوقت داخل المخابئ أثناء الغارات الجوية، أو في اللعب بين حطام السكة الحديدية القريبة من منزل أسرته. وكان شغفه بالعلوم قد بدأ منذ نعومة أظفاره حيث كان يقيم مع تلك الأسرة في منزل كان يسكنه عالم الكيمياء المشهور روبرت بنسن، الذي سُمِّي الشارع باسمه. وذات مَرَّة سأل والده عن سبب تسمية الشارع بذلك الاسم، فأحضر له الوالد (موفد بنسن)، الذي يستخدم بكثرة في المختبرات، وأراه كيف يَتغيَّر لون اللهب من الأزرق إلى الأصفر حينما يُرَش عليه ملح الطعام، كما شرح له أن اللون الأخير هو اللون المُميِّز لذرَّات الصوديوم الموجودة في الملح عند إثارتها بواسطة اللهب. وكانت تلك بداية اهتمامه بالعلاقة بين الضوء وذَرَّات المادة. وقد عَزَّز ذلك الاهتمام بقراءة الكتب العلمية التي تناسب عمره، وإجراء بعض التجارب الكيميائية والفيزيائية البسيطة في منزله.
وقد درس البروفيسور هينش في مسقط رأسه، هايدلبيرج، حتى نال الدكتوراه من جامعتها في الفيزياء عام 1969م. ثم انتقل إلى جامعة ستانفورد الأمريكية ليعمل فيها أستاذاً نحو أحد عشر عاماً. وبعد ذلك عاد إلى موطنه ليتولَّى إدارة معهد ماكس بلانك للبصريات الكيمة، وهي الإدارة التي ما زال يتولاها حتى الآن. ويُعَدُّ واحداً من رُوَّاد علم الفيزياء الذرية والتحليل الطيفي للذرَّات. و قد أحدثت بحوثه المتميِّزة، في هذا المجال، تَغيُّرات كثيرة في بعض المفاهيم الأساسية للذرة والضوء. فلا غرابة - وذلك إنجازه العلمي - أن نال العديد من الجوائز العالمية المرموقة. ومن هذه الجوائز جائزة الملك فيصل العالمية، التي فاز بها عام 1409هـ/ 1989م. ثم نال جائزة نوبل عام 1905م، أي بعد ستة عشر عاماً من فوزه بجائزة الملك فيصل.
وأما الفائز الثاني من الذين أُشير إليهما فهو البروفيسور مصطفى عمرو السيد، المصري الأصل الأمريكي الجنسية. وُلِد في موطنه، وتَخرَّج من جامعة عين شمس عام 1953م، ثم نال الدكتوراه من جامعة فلوريدا، كما تَدرَّب في جامعة هارفرد وجامعة ييل ومعهد كاليفورنيا التقني، إضافة إلى كونه أستاذ كرسي جولياس براون في جامعة جورجيا ورئيس مختبر دينامية الليزر فيها. ومن إنجازاته العلمية العظيمة وضعه قانوناً شهيراً في الكيمياء يُسمَّى (قانون السيد)، واستخدامه تقانات ابتدعها لدراسة خواص المواد والأجسام على مستوى النانو.
وقد استخدمت إنجازاته الفريدة في التصوير الدقيق للخلايا السرطانية ودراستها بعمق ودقة. ومما يُذكر، فيُشكر له جهوده الإنسانية في مجال التبادل العلمي مع الدول الأخرى، ودوره في إعداد قيادات المستقبل في المجتمع العلمي. وقد نال جائزة الملك فيصل في العلوم (الكيمياء) عام 1990م. ثم نال جوائز وميداليات كبرى بعد ذلك، مثل الميدالية الوطنية للعلوم، التي تُسمَّى جائزة نوبل الأمريكية، والتي يسلمها الرئيس الأمريكي نفسه للفائزين في حفل مهيب يُقام في البيت الأبيض.
والفائزة الأولى من الفائزتين المشار إليهما سابقاً هي البروفيسورة باري سنوسي التونسية الأصل الفرنسية الجنسية. وهي أستاذة في معهد باستير بباريس ومديرة وحدة الأمراض الفيروسية في المعهد. وقد قامت بدور رئيس في اكتشاف الفيروس المسبب لمرض نقص المناعة المكتسب مما أكسبها مع زميليها، مونتانييه وشيرمان شهرة واسعة. وواصلت بحوثها من أجل تطوير لقاح فعال للتحصين ضد ذلك المرض وتطوير وسائل للوقاية منه. وقد أشرفت على إنشاء عدة مراكز للتدريب على تشخيص الإيدز ومكافحته في كمبوديا وفيتنام وتونس ودول أفريقية وآسيوية أخرى. وكان فوزها مع زميليها المذكورين بجائزة الملك فيصل العالمية في الطب عام 1993م. ثم نالت جوائز كبرى بينها جائزة نوبل، التي نالتها مع زميلها مونتانييه قبل عامين، وكُرِّمت بوضع اسمها في قاعة المشهورات في المتحف العالمي لرائدات العلوم والتقنية في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما الفائزة الثانية من الفائزتين المشار إليهما سابقاً فهي البروفيسورة جانيت راولي الأمريكية الجنسية. وقد نالت جائزة الملك فيصل العالمية في الطب عام 1988م. وكان موضوع الجائزة ذلك العام (سرطان الدم). وكانت حينذاك أستاذة متميزة في قسم الطب والوراثة الجزيئية وبيولوجيا الخلية بجامعة متشيجن. وتاريخ هذه العالمة مثير للإعجاب. فقد شُغِفت بالعلوم منذ طفولتها، وتَفوَّقت في دراستها إلى حد أن تلك الجامعة قبلتها بالمجان للدراسة فيها وعمرها لا يتجاوز خمسة عشر عاماً وقبل أن تكمل الدراسة الثانوية.
وقد اختارت تلك العالمة الفذة في البداية دراسة الفلسفة، فحصلت على البكالوريوس فيها بتفوق وعمرها تسع عشرة سنة. وبعد ذلك بسنتين حصلت على بكالوريوس ثان في العلوم. ثم نالت بعد عامين فقط درجة الدكتوراه في الطب، واستطاعت ببراعة فائقة أن تُوفِّق بين عملها طبيبة للأطفال المُتخلِّفين عقلياً وباحثة وأستاذة جامعية تُدرِّس أمراض الجهاز العصبي، وأمَّاً لأربعة أطفال. والواقع أنها حَقَّقت أعظم اكتشافاتها العلمية وهي تعمل في منزلها، ولم تتفرغ تماماً للبحث العلمي إلا بعد أن بلغ أصغر أولادها الثانية عشرة من عمره. وقد نالت - بعد فوزها بجائزة الملك فيصل - العديد من الجوائز الكبرى، مثل جائزة لاسكار، التي يُسمِّيها البعض (نوبل الأمريكية في الطب)، والميدالية الوطنية للعلوم، وهي أرفع جائزة علمية في أمريكا. ومما قالته: إن من تَولَّى تعليمها، ووقف وراء نجاحها، امرأة هي أمها التي نَمَّت فيها عشق المعرفة وحب العلوم.
ولا يجد كاتب هذه السطور أجدى من الإشارة إلى الدروس التي يمكن أن تؤخذ من قصة البروفيسور هينش مع أبيه في طفولته، وسيرة البروفيسورة راولي مع أولادها في طفولتهم وجعلها للمنزل مكانته اللائقة به في حياتها. وفي وصول كل من البروفيسور مصطفى السيد والبروفيسورة باري سنوسي دليل واضح على أن العربي - كغيره - إذا وجد بيئة علمية أنجز من الإبداع ما يؤهله للتقدير الذي يستحقه.