طفل يجلس على عتبة باب أهله وحوله أطفال الجيران. منظر لم يعد مستغرباً, لعله بداية لمرحلة لاحقة. حينما تبتعد وتنأى قدما هذا الطفل وأصحابه إلى الساحة القريبة وهكذا حتى يعاين حارته والحارات المجاورة شبراً, شبراً. لست بصدد ذكر مثالب ومعايب وجود الأطفال بالشوارع, فهم بلا شك أصبحوا من الفئات المستهدفة للعصابات ولمروجي المخدرات وللاستغلال الجنسي.
هذا الطفل هو إنسان وله حاجات تحتاج لإشباع. وهي تتدرج بمستويات خمس كما حددها عالم النفس ماسلو، الذي رتب الحاجة للحب والحنان والخدمة الاجتماعية (love, affection and social needs) بالمرحلة الثالثة. الإنسان بطبعه اجتماعي, يؤثر, ويتأثر. حاجته للاختلاط نزعة طبيعية لا سبيل لإلغائها أو تعطيلها. يحتاج وبشدة إلى وجوده في جماعة والجماعة كما يعرفها العالم (توسي): «تجمع لعدد صغير نسبياً من الإفراد بشكل يمكنهم من التفاعل الدائم خلال اللقاء والمواجهة المباشرة، ويشعرون فيما بينهم بالتجاوب النفسي من خلال انتمائهم لعضوية جماعة واحده».
يحتاج الطفل إلى الإبداع, يحتاج إلى التفكير بزاوية غير تلك المألوفة في بيته، ومختلفة تماماً عن تلك القيود التي يراها أو يقاسيها في مدرسته. هو يريد أن يهرب ولو بفكرة عن سياسات الكبت والترويض كأنهم في كتيبة عسكرية, الويل لمن يعترض على رأي المدرس, أو يخالف أنظمة المدرسة, أو حتى يعبر عن رأيه, أما من يلبس لون فريقه الرياضي المفضل بدلاً من لون المنتخب فقد حكم على نفسه بالإعدام.
إن هذه الظاهرة ما هي إلا تمثيل لضعف الهندسة الاجتماعية وهي كما شخصها الدكتور عبدالله البريدي في مقال: «أولادنا الهائمون في الشوارع نموذجٌ لضعف هندسة مجتمعاتنا!». عملية إعادة هندسة المجتمع مسؤولية مجتمعية, مشتركة تحتاج لتبني القيادة السياسية لها, وتبني أفراد المجتمع لمفرداتها، والتزام كافة الجهات ذات العلاقة فتضحي كمنظومة واحدة؛ لضمان إحداث النقلة النوعية المستهدفة.
إن عملية إعادة هندسة المجتمع تتضمن - وفق الدكتور البريدي - خمس عمليات متكاملة هي: التشخيص، والتخطيط (أو الهندسة)، والبناء، والحماية، والإبداع. ويمضي البريدي بالقول: «من السمات الأساسية للمجتمعات الأكثر ذكاءً أنها تمارس (هندسةً اجتماعيةً ذكية)، بخلاف المجتمعات الأقل ذكاءً التي تركن إلى: ملاحظات (عابرة فاترة) لأدائها وسلوك أفرداها، (عابرة) إذ لا منهجية ولا تراكم فيها.. (فاترة) إذ لا هم إصلاحي ولا تطلع حضاري يحدوها.. ولذا فالمجتمعات الأقل ذكاءً تكتفي بدور (المتفرج) حيث إنها مجتمعات تكبر فتكبر معها مشاكلها وتتفجر أزماتها في جوفها»!. (انظر مقاله بعنوان: أما يسع المجتمعات الأقل ذكاءً زيادة ذكائها، جريدة الجزيرة، 17-11-2005).
هل سنظل مكتوفي الأيدي, إلى أن تكبر مشاكل أولئك الأطفال المهمشين وندفع فواتير باهضة؟ وهنالك سؤال خطير في سياق الموارد البشرية يتمثل في: هل هناك حل يتسم بالتجانس والانسجام بين ما يرغب به أولئك اليافعون وبين ما يريده سوق العمل, من وجهة نظر اقتصادية إدارية؟.
استهدفت خطط التنمية بالسعودية التحول بالاقتصاد السعودي من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط إلى اقتصاد معرفي يعتمد على التقنية والمعلوماتية للإسراع بمعدلات نموه بدرجة أكبر لملاحقة سباق التنمية والتقدم والتفاعل مع التوجهات العالمية، ولما كانت التقنية والمعلوماتية تعتمد على الموارد البشرية المؤهلة ذات الكفاءة والمبدعة فمسؤوليتنا تتضاعف في تأهيل الموارد البشرية والتي يمكن أن تكون بحد ذاتها ميزة تنافسية.. والميزة التنافسية competitive advantages كما يعرفها (جاري ديسلر): «مجموعة العوامل التي تميز منتجات منظمة عن غيرها من منتجات المنافسين بهدف زيادة الحصة السوقية»، فما هي العوامل التي تميز منتجات منظماتنا في العقود القامة؟.
لكي نتدارس هذه الظاهرة بعمق ونعي الأمر علينا الاعتراف أولاً بوجود المشكلة، التي أعتقد أنها بداية الحل. لا نريد حلولاً علاجية فقط, ولكن نريدها حلولاً وقائية أيضاً. نريد أن نكون مثل الطبيب الماهر الذي يعالج السبب وليس العرض، فماذا ستفعل حبة مسكن الصداع والضرس هو من يعاني.!
لماذا ننفق مئات الملايين لعلاج المدمنين وتأهيل الأحداث الخارجين عن القانون, وعلاج حالات الاكتئاب, والأمراض النفسية. ألا يعتبر هذا هدراً صارخاً للموارد! لم نفعل هذا ونحن قادرون على الحد منها بالوقاية! تساؤلات تقودنا للسؤال الأعمق: كيف نستثمر هذا الوضع غير الطبيعي, بصورة طبيعية تتصل كثيراً وحاجات اليافعين, وتستوعب احتياجات سوق العمل بطريقة تكاملية متعددة الأبعاد؟.
لعل الحل يبدأ من الحارات نفسها, بتكاتف وتضامن وتضافر الجهود واستغلال مجالس الأحياء واستحداث مراكز مخصصة للأطفال, مدعومة من جميع قطاعات الدولة, ومن أولياء الأمور, ومن القطاع الخاص - خاصة - فيتم تشكيل لجان من كافة الفئات, ومن ضمنهم الأطفال, والشباب لضمان الالتزام بالتنفيذ أولاً, وللتعرف على احتياجاتهم ومشاركتهم بعدها, ثم توضع رسالة ورؤية وأهدافاً واستراتيجيات للتخطيط ولدعم عمليات البحث. ثم تنفيذ وحتى تكتمل العملية فلا بد من أن تشتمل على ما يعرف بالتقييم والرقابة وذلك للتحقق مما تم إنجازه والتدخل في حال وقوع انحرافات.
قد يقال لمثل هذه المراكز: لا؛ لأن أولئك الأطفال الهائمين في الشوارع تشكلت لديهم أوضاع نفسية معينة تجعل من الصعب في حالات كثيرة احتواء أكثرهم في مدارس أو مراكز عادية، وهذه المراكز تتجاوز وتتعدى مجرد إشغال تلك الفئة إلى تشغيلهم ليخرجوا لسوق العمل مؤهلين ومدربين, وتكييف برامج ملائمة تراعي خصائصهم النمائية الجسمية النفسية والاجتماعية بافتراض أنها تتحدى قدراتهم ليشعروا بالإنجاز.. وتوفير ورش عمل وبرامج تدريبية متنوعة, إدارية, اجتماعية, إعلامية, لغات, فنون, مال وأعمال.. بشكل مبسط ومتدرج حسب الأعمار والقدرات.
إن المهمة الأصعب تكمن باجتذابهم، وأرى أن منح البارزين منهم الحوافز المعنوية والمادية وممن يتوسم فيهم القيادة, كفيل بتسهيل هذه المهمة وترشيد مسارها.
ولكي نفهم كيف يمكن اشتراكهم بهذه المراكز فإنه يجب علينا أن نستوعب ثلاث مراحل يمرون عليها وذلك كما اقترحها (رولان.ي. قريجو) من جامعة كاليفورنيا، المرحلة الأولى هي: مرحلة الحذر (anticipatory)، حيث يتبنى الناشئ مجموعة من التوقعات بشأن وضعه، وهل هذا المكان سيكون الملائم له. يليها مرحلة التعلم والتأقلم (accommodation) وفيها يتعرفون على أدوارهم وعلى معايير المركز. أما المرحلة الأخيرة فهي: إتقان الدور والتكيف معه (role management) حيث تتكون لهم المعرفة الدقيقة بكل ما يتعلق بالمركز, وبطرق العمل به, ولا بد أن ندرك أنه تتفاوت سرعة (التطبيع) بحسب اتجاهات النشء وبمهارات المشرفين.
يتم خلالها تقديم الحوافز المادية المناسبة لهم والحوافز المعنوية، فالحافز المادي لا يعمل لوحده حيث أشار عالم النفس (فرديك هرزبرج) إلى أن «المال يحقق حالة من الهدوء المؤقت لدى الفرد وسرعان ما يزول تأثير هذا الحافز», ولذلك فهو يرى أن تقديم مزيد من الأموال لن يزيد من دافعية الفرد, لذا يرى أن الحوافز غير المالية مثل فرص إحساس الفرد بالإنجاز وتحقيق النجاح النفسي أمران غاية في التأثير.
لنساعد «أطفال في الشوارع» ليكونوا «قادة في الغد»، لم لا؟!.