النفس البشرية ليست مِلْكَ صاحبها، بل هي ملك خالقها وبارئها سبحانه وتعالى، والإنسان المسلم من أَوْلى الناس بمعرفة أحكام شرعه في جوانب الحياة كلِّها، حتى يكون منضبطاً بضوابط الشرع فيما يقدم عليه من أفعال، فالغاية لا تبرِّر الوسيلة، والإقدام على قتل النفس جريمةٌ لا يجوز للمسلم أنْ يرتكبها - كما هو مقرَّر في فتاوى العلماء - وفتح هذا الباب بحجة مواجهة الظلم والطغيان اللذين تعاني منهما شعوب الدُّوَل التي لا ترعى حقوق شعوبها، لا يّصحُّ، وتشجيعه إعلامياً دّفْعٌ بالناس إلى ارتكاب جرائم في حق أنفسهم.
لقد أقدم ذلك الشابُّ التونسي (محمد بو عزيزي) على حَرْقِ نفسه؛ لأنه لم يستطيع تحمل ما وقع عليه من الظُّلم والقوسة في الحكم، وعدم الإحساس بمشكلته، وكان عملُه سريعاً مفاجئاً غير متوقَّع، وكأني به - غفر الله له - قد اتَّخذ القرار القاسي في حقِّ نفسه في لحظة انغلاقٍ نفسي مفاجئ أصبح معه في حالة غياب الوعي التي يتعطل فيها دور العقل، وتغلق فيها منافذ التأمَّل في العواقب، والتفكير في النتائج، هذا ما نرجوه، وعلمه عند ربه فهو المطَّلع على حاله، ومثل هذه المواقف المفاجئة تأتي - عادةً - بدون ترتيب أو تفكير من الأشخاص الذين يقومون بها، وقد يكون لها من الآثار الإيجابية الكبيرة في مجتمعاتهم ما لم يكن يخطر ببال أصحابها حينما أقدموا عليها - كما هو الشأن في حالة هذا الشاب التونسي - الذي حرَّك شعباً بكامله.
أمَّا الإقدام على الانتحار، وتحريق النفس بالنار مع سبق الإصرار فهو اعتداء على النفس، وفعلةٌ يجرِّمها الشرع، ولا يقرها العقل السليم - مهما كانت التسويفات - ولابَّد هنا من دور إرشادي كبير تقوم به وسائل الإعلام من خلال بيان أحكام الشرع في هذه المسألة، واستضافة العلماء الذين يملكون القدرة على إقناع الناس بعدم وجود مسوِّغ للإنسان للإقدام على قتل نفسه وحرقها بالنَّار.
إن الحرق في حدِّ ذاته جريمة مستنكرة، فإنما يعذَّب بالنار ربُّ النار فكيف به إذا أصبح وسيلة احتجاجٍ على جهة حكوميةٍ منعت هذا الإنسان حقه، وحَرَمَتْه من العيش الكريم ظلماً وعدواناً.
نعم، هنالك ظلم شائع في عالمنا الإسلامي تعاني منه كثير من الشعوب التي تعيش حياة الفقر والحاجة والبطالة، في ظلِّ حكوماتٍ قادرةٍ على رفع مستوى شعوبها، وتحقيق مطالب رعاياها، وانتشال الناس من مرضهم وفقرهم، وبؤْسهم، وقد بدت لنا مظاهر ذلك الظلم من خلال ثورة الشعب التونسي الذي سُدَّتْ أمامه أبواب العيش الكريم سنوات طويلة، ومن خلال هذه الأصوات التي تتعالى في دول إسلامية كثيرة منادية بحقوقها، وحرياتها التي ضمنها لها الشرع الإسلامي الحكيم. بل إن تلك المظاهر قد بَدَتْ لنا من خلال إقدام عدد غير قليل من الناس على إشعال النيران في أجسادهم حينما حاصرهم الظلم والتجاهل في زوايا ضيقة لم يجدوا منها مخرجاً.
نقول: نعم قد يكون هنالك ظلم واضح، ولكنَّه لا يسوِّغ لانتشار ثقافة الانتحار، والإقدام على إحراق الجسد بهذه الصورة المؤلمة التي نقلتها لنا شاشات الفضائيات.
إنَّ التوعية السريعة للشعوب بحكم الشرع في هذه الأساليب واجبة، وإنَّ مراجعة حكام المسلمين في أنحاء العالم العربي والإسلامي لأساليب تعاملهم مع شعوبهم واجبة أيضاً، بل إنَّ الشهامة والشيمة والرحمة تقتضيها، فكيف بها وهي مطلب شرعي واضح لا يُماري فيه إلاَّ جاهل أو مكابر.
الانتحار - بصورة عامة - أسلوب عَدَميٌّ، فكيف إذا كان حَرْقاً للأجساد بالنَّار.
إن مرارة الحرمان والظلم والاستبداد شديدة على النفس البشرية، ولكَّن الاعتداء على النفس بالقتل أو الانتحار أشدُّ مرارة على الإنسان نفسه، وعلى المجتمع البشري كلِّه.