عندما أصبح من حالفهم الحظ للتعلُّم في مرحلة دراستهم الإعدادية أصبح لهم مصدران من مصادر الإلهام. أول المصدرين عملي مُتمثِّل في اندلاع الثورة الجزائرية المجيدة، التي انطلقت -عام 1954م- ضد الاستعمار الفرنسي،
الذي كان نيراً على صدر الشعب الجزائري، وثاني المصدرين فكري مُتمثِّل في كتابات أحرار من أمتنا، شعراً ونثراً. كان من الكتابات الرائدة الملهمة كتابة أحمد أمين، التي كان جزء منها مُقرَّراً في كتاب المطالعة ورد فيه ما يأتي:
(الأمم لا تخلق إلا من المصائب، ولا تحيا إلا بالموت، ولا يُكوِّن زعماءها إلا الشدائد. وما ترك الجهاد قوم إلا ذَلُّوا، ولا استلم قوم للتَّرف إلا هانوا).
وقد ضمَّنها الأستاذ أحمد أمين أبياتاً لشاعر النيل حافظ إبراهيم؛ منها:
مرحباً بالخطب يبلوني إذا
كانت العلياء فيه السَّبَبا
ومن تلك الأبيات:
أنا لو لا أن لي من أمَّتي
خاذلاً ما بِتُ أشكو النُّوبا
أمَّة قد فَتَّ في ساعدها
بُغضها الأهل وحب الغُرَبا
وهي -والأحداث تستهدفها-
تعشق اللهو وتهوى الطربا
لا تبالي لعب القوم بها
أم بها صرف الليالي لعبا
وكان لكلمات بيرم التونسي - وبيرم كلمة تركية معناها (عيد) وقع في نفوس الكثيرين، وبخاصة أن دفاعه عن الأمة عرَّضه للنفي والتشريد سبعة عشر عاماً. وكان مولده في حَيٍّ عبي بالاسكندرية وعاش في ذلك الحَيُّ، ثم التحق بصف ثورة عام 1919م وتماهى موقفه الوطني النبيل مع موقف ابن مدينته ورفيق نضاله سيد درويش واضع أنشودة:
بلادي بلادي بلادي
لك حُبِّي وفؤادي
على أن ما تَرسَّخ في أذهان جيلي حينذاك بيتا أبي القاسم الشابي:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بُدَّ أن يستجيب القدر
ولا بُدَّ لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
وكان لسماع هذين البيتين تنطلق كلماتهما، هذه الأيام، من حناجر أبناء الشعب التونسي الثائرين على رموز الظلم والفساد سحر يبعث الأمل الذي طال بقاؤه خابياً في نفوس الغيورين على أمتهم ومستقبلها عقوداً.
كان من تَرسُّخ معنى بيتي أبي القاسم في ذهن كاتب هذه السطور أن كان لهما صدى في نفسه اتَّضح في أبيات من قصيدة كتبها عام 1958م، وورد فيها:
هكذا سُنَّةُ الحيَاةِ
فلا شيءَ بِمُوهٍ جِماحَ
شَعبٍ مُرِيدِ
وإذا الشعبُ رامَ أن يَقْهرَ
الذُّلَّ ويَقْضي
على حَيَاةِ القيودِ
باركتْه السَّماءُ في مُبْتَغاه
وتَوَلَّتْ خُطاه بالتَّسديدِ
أجل:
لقد هبَّ الشعب التونسي بثورة شعبية جماعية لم تُخطِّط لها زعامة مُعيَّنة، ولا ادَّعتها - بعد أن هَبَّت - جهة حزبية أو نقابية معترف بها رسمياً أو غير معترف بها. هَبَّ الشعب التونسي العظيم بإرادته بثورة شعبية حتى إن رمزاً من رموز عهد الظلم والفساد لمَّا تطله يد الإزاحة من السلطة عند كتابة هذه السطور صباح يوم السبت الماضي بعد قد اضطر - في محاولة تبدو بائسة منه للتشبُّث بتلك السلطة - إلى الاعتراف بأنها (ثورة الشرف والكرامة). هَبَّة الشعب التونسي، أو ثورته، برهان على صحة كلمات شاعر تونس العظيم أبي القاسم الشابي المُؤكِّدة استجابة القدر - والمقصود استجابة مقدِّر الأمور والأحوال - لإرادة الشعب الحياة الكريمة. هَبَّة ذلك الشعب بكل فئاته هَبَّة مِيَز بها الخبيث من الطيِّب. لقد ميَّزت تلك الهبَّة من ينشدون الحق والعدل ممن ليس لهم من المبادئ إلا التمسُّك بمناصبهم لمواصلة ظلمهم وفسادهم. وتَسارُع أحداث تلك الهبَّة المباركة - بإذن الله - (ثورة الشرف والكرامة) بَيَّن مدى تجرُّد رموز السلطة المطاح بها عن مبادئ الشرف والكرامة. ومن أدلَّة ذلك تَسارُع محاولاتهم التنصُّل مما كانوا يَتبنَّون من مواقف والتَّبروُ مما كانوا يمارسون من أعمال كانت وبالاً على الشعب التونسي.
عند بداية هَبَّة إرادة الشعب التونسي العظيم بهذه الإرادة ادَّعى رأس هرم السلطة أن ما هو حادث مُجرَّد أناس مُلثَّمين اندسوا وسط الأهالي بتحريك من جهة أجنبية. لكن ذلك الادِّعاء سرعان ما نُسِخ، وإذا برأس السلطة الظالمة الفاسدة يقول مُوجِّهاً كلامه للشعب الثائر: (الآن فهمت ما تريدون) وللمرء أن يَتصوَّر كيف أن زعيماً لبلد من أكثر البلدان العربية تقدُّماً علمياً وثقافياً لم يفهم ما يريده شعبه إلا بعد ثلاثة وعشرين عاماً من ظلمه له وممارسته مختلف أنواع الفساد فوق أرضه.
لم يصغ الشعب التونسي لما قاله رأس السلطة المُتسلِّطة عليه حول فهمه، أو عدم فهمه، لما يريده الشعب. بل إن الشعب أخذ ما قاله على أنه مشابه لما قاله فرعون لما أدركه الغرق. فسارع إلى إعلانه فصل رئيس وزراء حكومته ووزير داخليتها. لكن هذا الإعلان ذهب أدراج رياح العاصفة.
أما من كانوا رموزاً لعهد الظلم والفساد فلعلَّ من الأدلَّة الواضحة على سوئهم ما اتضح من مواقف المُنتفذِّين منهم كرئيس الوزراء ورئيس البرلمان ووزير الداخلية. لقد انطوى البيان الأول لرئيس الوزراء، محمد الغنوشي، على ما يفهم منهم أنه كان يأمل بأن عدم وجود رئيسه الهارب كان مؤقتاً، وتَولَّى رئاسة الدولة. لكن رئيس البرلمان ما لبث أن تَولَّى الرئاسة بدلاً منه، وكان طابع البيان الأول لوزير الداخلية طابعاً يَتَّسم بالتعالي وشبه التهديد، ثم نُسِخ، بدرجة كبيرة، ليتحوَّل ببيان آخر، إلى استرضاء للشعب.
وكان خطاب رئيس البرلمان السابق، المُترئس للدولة أخيراً، خطاباً أشبه ما يكون بالتماس المغفرة والصفح، معترفاً بأن هَبَّة الشعب هي (ثورة الشرف والكرامة).
ولم يكن أمام هؤلاء الثلاثة في محاولتهم التَّشبُّث بمناصبهم إلا أن أعلنوا تخليهم عن عضويتهم في حزب الدستور الذي ينتمون إليه. وتصرَّفات هؤلاء الثلاثة أمام ما أصبحوا يواجهونه من ثورة شعبية دليل على أنهم أبعد ما يكونون عن التمسُّك بمبادئ سياسية شريفة، وأن هدفهم هو التَّشبُّث بمناصبهم.
وللحديث بقية -إن شاء الله- بعد أن تصبح الأمور أكثر وضوحاً.