لو كنَّا مثل أجدادنا الأوائل، نؤرخ للسنوات بما يحدث فيها من كوارث ومصائب، لأسمينا العام 2011 سنة الحرقة، على غرار سنة الرحمة عام 1918م، وسنة السبلة وسنة الهدام وسنة الجوع وسنة بقعاء وغيرها من السنوات التي ارتبطت بكوارث أو ظواهر طبيعية أو بحروب أو ما شابه ذلك.
فمع مطلع هذا العام الجديد، اندلعت أولى ثورات الشعوب العربية في تونس، بعدما أشعل التونسي محمد البوعزيزي النار بنفسه نتيجة القهر الذي تعرَّض له بعد منعه من بيع الخضار في الشارع، وحرمانه من مصدر رزقه الوحيد، وسرعان ما تحوَّل هذا الشاب إلى رمز وأيقونة في مختلف بلدان العالم العربي، فصمِّمت القمصان الشبابية تخلِّده، وأنجزت المواقع الاجتماعية والمنتديات ترفع من شأنه، بعد أن أشعل ثورة شعب لم تخمد حتى بعد أن أسقطت الرئيس، ولا أحد يعرف إلى أين تسير هذه الثورة، وكيف ستتوقف الفوضى في بلاد من أكثر بلدان العالم العربي تطوّراً ونماءً، إلى الحد الذي يجعل المتشائم منَّا يقول لنفسه ماذا سيحدث إذن في بلدان الفقر والجوع والبطالة والفساد والفوضى؟!
كنَّا نحلم بأن يكون هذا العام الجديد عام خير ونماء وازدهار وحرية وديمقراطية على بلداننا العربية، قبل أن يشتعل الفتيل في تونس، وتكثر حرائق الأجساد في الدول الأخرى، وكأنما شريط النار امتد إلى الجزائر وليبيا ومصر والمغرب واليمن والسودان وموريتانيا، مرة أمام مجلس الشعب، ومرة أمام البرلمان، وثالثة أمام القصر الرئاسي.. وهكذا تتواصل حالات الاحتجاج والقهر، ولعل أغربها انتحار رجل أعمال موريتاني أمام القصر الرئاسي في نواكشوط، فهو ليس عاطلاً عن العمل كما توحي حالات اليأس والفقر في الدول الأخرى، وإنما هي حالة اضطهاد تعاني منها عشيرة يعقوب ولد دحود من قبل الحكومة، هذا الرجل الذي ينحدر من أسرة ثريّة ويحمل شهادة عليا من فرنسا، ولكن الأمر يرتبط بسوء إدارة الحكومة لشؤون الشعب، والتمييز بين العشائر هناك، الأمر الذي جعل هذا الشاب الثري المتعلّم يحتج على الطريقة التونسية، أو على طريقة بائع الخضار البسيط!.
الغريب أن أكثر حالات الانتحار بالحرق خلال هذا الشهر المنصرم جاءت من رجال في الأربعينات من العمر، أي بلغوا سن النضج والحكمة، فهم ليسوا مراهقين ولا متهوّرين مثلاً، بل هم رجال حاولوا وحاولوا أن يندمجوا في المجتمع، أن يغيروا حياتهم إلى الأفضل، أن يحتجّوا بكل الطرق المتاحة، بكل الطرق المشروعة، طرقوا الأبواب مراراً، لكن لا أحد يجيب، بل اكتشفوا أنهم كانوا يطرقون جدراناً خرساء، فكان لابد من لفت الانتباه إلى معاناتهم الطويلة، وهكذا كان دليلهم هذا الشاب التونسي الذي فتح النار على بلدان الثلاثمائة مليون نسمة، فما العمل؟
هل يوزع القادة الهبات على شعوبهم، كما يوزع الخلفاء قديماً مائة أو ألف دينار لكل مواطن مثلا؟ هل يهبهم هؤلاء القادة حفنة حريَّة قول، على حفنتي حقوق إنسانية كانت مهدرة؟ وهل مثل هذا الحل الوقتي المخدِّر يخفف قسوة الواقع اليومي؟ أم أن الأمر يحتاج إلى عقول وطنية مخلصة ومستنيرة، تستطيع أن تخطط لخلاص مجتمعاتها من البطالة والفقر والجوع، ومن التمييز والعنصرية؟ وتضمن لشعوبها الحياة الحرَّة الكريمة، وتعيد قيمة الإنسان المفقودة؟ بدءاً من حقه في الدراسة والوظيفة والمأوى وانتهاءً بحقه في الانتخاب واتخاذ القرار المشترك؟
إنها مجرّد أسئلة، قد يجد إجاباتها أحفادنا الذين ربما ينعمون بديمقراطيات محتملة، وهم يستعيدون ذكرى سنة الحرقة 2011م.