الله يرحم أيام زمان، عبارة يرددها الآباء كثيراً في هذا الزمن، يرددونها بكل حسرة وحرقة، بكل ألم ولوعة، يرددونها كلما مر بهم جديد لا يعرفونه، أو موقف لا يألفونه، أو سلوك ناشز شاذ لا يقرونه، أو فعل منكر مستنكر لا يقبلونه، أو آلة اتصال أو تواصل لا يحسنون التعامل معها واستخدامها، كثرت عليهم المستجدات وتوالت، وسيطر على الوجدان ذكريات الأمس ورغبة العيش فيه، وغدا أمنية تطرب إليه النفس و تشتاق إلى أنماط الحياة فيه على الرغم من بساطتها وقلة إمكاناتها.
يردد الآباء:(الله يرحم أيام زمان)، عندما يستمعون إلى مطالب أبنائهم، وعندما يرونهم على هيئة غريبة المظهر والمخبر، وهم يأكلون عجلى، ويشربون أنواعا من المشروبات الساخنة والباردة يتعذر على الآباء مجرد نطق أسمائها، يرددون (الله يرحم أيام زمان) وهم يرون الأبناء يسهرون حتى الفجر، وينامون حتى منتصف النهار، وهم يستذكرون الدروس اضطرارا، ويتعلمون وهم مكرهون، عادات توالت تترى، ومستجدات تنوعت عجلى في كل شأن من شؤون الحياة، كل شيء تغير وتبدل، وأضحى الآباء في حيرة من أمرهم، وصار ترديدهم لعبارة « الله يرحم أيام زمان « يتكرر، نظرا لكثرة ما يرون من المتغيرات، وما يشاهدون من مستجدات متنوعة متتالية يتعذر عليهم فهمها والتعامل معها، إنهم يرون الحياة معقدة تثير القلق والخوف.
وفي الوقت نفسه صار الأبناء يقولون عن آبائهم : لماذا لا يتركوننا وشأننا ؟ لماذا يتدخلون في حياتنا ؟ لماذا يحشرون أنوفهم في كل شيء تحت عنوان « الخوف علينا « ؟، كفى توبيخا، وكفى محاصرة بالأسئلة، نريد أن نعيش عصرنا على أصوله وحسب هوانا، إن أبناء اليوم يرفضون خشية الآباء وتوجسهم عليهم، ويعدون ذلك صورة من صور الرقابة والتحكم عن قرب، لهذا لا يترددون في إظهار تذمرهم وضيقهم وتأففهم من تدخل الآباء المستمر فيما يعدونه من ضرورات الحياة في زمنهم، بل من مسلماتها، وأضحى لسان حالهم يقول : إننا نتعمد البحث عن كل ممنوع لنمارسه ونجربه، ولو من باب التحدي وإثبات الذات، وهذا مما يشجع الشباب ويدفعهم دون روية إلى الوقوع في براثن الانحراف ومسالك الهوى و الشيطان وإخوانه وأعوانه.
زاد من تعقد الأمور وتوترها، التطور الإعلامي المنفتح، الذي اتسع انتشاره، ونزع برقع الحياء والحشمة، فأضحى الفضاء مزدحما ملوثا بكل ما هب ودب من الأفكار والمعتقدات والدعوات التي تجعل الحليم حيرانا، بل إن بعض القنوات تجردت من القيم الأخلاقية في أبسط صورها، وصارت تتعمد بث كل ما يدفع الشباب ويساعدهم على الانحراف الفكري والسلوكي ويسهله لهم، وإنك لتعجب أشد العجب من الغاية التي ينشدها هؤلاء، الإنسان السوي يسعى جاهدا في أن يكون مفتاح خير وهداية ورشد، لأنه يعلم مقدار الفضل و الأجر الذي سوف يتحصل عليه، أما أن يكون داعية ضلال وتدمير وإفساد بكل إصرار وتعمد، فهذا مما يحار العقل في فهمه وتبريره، لكنها النفوس المنحرفة، ترى البصائر دائما حولا، أنظروا الآية رقم (8) سورة فاطر، والآية (37) سورة غافر، والآية (14) سورة محمد.
وزاد التطور التقني وسهولته، من تعقيد الأمور وتوالي متغيراتها ومستجداتها، مما أضعف قدرة الآباء على السيطرة والتصدي لصنوف الإفساد المادية والمعنوية، فأضحت الدنيا كلها بقضها وقضيضها، بغثها وسمينها، فضاء متاحا سهلا ميسرا، بلمسة زرار على لوحة مفاتيح أجهزة الهاتف النقال، أو الحاسب الآلي، يستعرض الشاب كل ما يفكر فيه، أو يأنس إليه، أو يوجه له، أو يزين في نظره من أفكار وأفعال.
هذه سنة الله في الكون والخلق، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا، لهذا سوف تتوالى المستجدات، لتزاحم الإرادات وتتحداها، ولتزيد الوحشة بين الآباء والأبناء وتعمقها، مما قد يفضي إلى صراعات داخل الأسرة، وخروج على المسلمات التي تحفظ الدين والعقل والنفس من الانحراف والزيغ والهلاك.
فيأيها الآباء لا تتركوا الأبناء وشأنهم، تعاملوا مع المتغيرات التي جدت في حياتكم وأضحت من مسلمات حياتهم، بعقلية إيجابية، وحكمة ودراية، وتفهم ويقظة، لا تتركوهم يواجهون التحديات فهي أقوى من إرادتهم، وأعقد من أن يقدروا على حلها وحدهم.