الشارع التونسي في أيامنا هذه؛ يكرر صورة من صور المشهد العربي المألوف لا أكثر. الفارق الوحيد - ربما - الذي لمسناه في التونسي الغاضب المتظاهر، أنه لم يستخدم السلاح الناري. لم نر في أيدي الناس بنادق ولا رشاشات، ولم يقدم طائش منهم على التفجير، هذا..
مع ما صاحب الغضب، من تحريق لمتاجر ومساكن، وتخريب لمؤسسات عامة وخاصة، وما رافق ذلك من فوضى ونهب وغيرها، كلها أعمال لا تنم عن شعب كنا نظنه أكثر تحضراً من غيره في عالمنا العربي.
الواقع أن التفسير المنطقي لما سبق، هو أولاً في القبضة الأمنية القوية جداً لتونس طيلة نصف قرن وأكثر، ثم في تركيبة المجتمع التونسي وثقافته الفرانكفونية، رغم أنه يقع بين كماشتي ليبيا من جهة، والجزائر من جهة، وفيهما ما فيهما من تقلبات ونزعات ونزاعات لا تهدأ أبداً، وقد عانت تونس في سنوات خلت، من الجارتين العربيتين، نزقاً وشغباً ليبياً، وسلفية جزائرية متطرفة، كما عانت من تدخلات مذهبية تأتي من بعيد، بهدف دعم الحركة الخوانجية فيها، وهي التي اتهمها نظام بورقيبة عام 1986م، بالتفجير في المرافق السياحية في سوسة.
مسألة التركيبة الاجتماعية التونسية الهادئة جداً، تلقي بظلالها على التفجير الفجائي في النصف الثاني من ديسمبر الفارط. لماذا أحرق الشاب (بو عزيزي) نفسه؟ هذه مفهومة.. ولماذا خرجت مظاهرة احتجاجية في بلدته (سيدي بوزيد)؟.. هذه أيضاً مفهومة.. لكن من كان وراء تثوير الشارع التونسي كله في كافة مدنه وجهوياته؟ في المجتمع المسالم المنضبط سلوكياً وأمنياً إلى درجة لا مثيل لها ربما في العالم العربي كله، وفي ظرف أيام قلائل؟ حتى بدت الحملة وكأنها منظمة مسبقاً. هذه مسألة فيها نظر، وتحتاج إلى قراءة متأنية لمزاجية محيط القصر الجمهوري، ورجال الرئيس التونسي السابق ابن علي في الأيام القليلة التي سبقت وواتت الانتفاضة الشعبية هناك، وخصوصاً مزاجية المؤسسة العسكرية، التي يبدو أنها ابتعدت كثيراً عن رئيس الدولة في مدة ليست بالقصيرة.
على كل حال.. المشهد التونسي الآني، والجماهيري منه بصفة خاصة، يكرر صورتنا العربية في مغربنا ومشرقنا.. الجماهير التونسية الغاضبة، خرجت وهي تلعن رئيسها، وتمزق صوره، وتصفه بأقبح الأوصاف، وقد كانت بالأمس، تحمله فوق أكتافها، وتفديه بأرواحها، وتسبح بحمده.. لا جديد في هذه التناقضية. العربي المجيد يجيدها بحرافة يُحسد عليها، وعرب المشرق لا أحد يفوقهم أو يزايد عليهم في رفع الشعارات والهتافات والتظاهر، حتى لو ظهر عفريت من الجن يدعو لإسقاط حاكم عربي..! وهم الذين سارعوا فشاركوا إخوانهم عرب المغرب الأوسط، فتظاهروا ضد الرئيس المخلوع الذي وصفوه اليوم بالدكتاتور، وقد كان بالأمس رئيساً ديمقراطياً.
من يريد أن يفهم طريقة تفكير العربي، ومزاجيته المتقلبة، فلينظر إلى سلوك المتظاهرين في الشوارع العربية، ماذا يفعلون بمؤسساتهم الوطنية؟ وماذا يقولون في حق رؤسائهم وقادتهم؟ وماذا يطلبون لحياتهم ومستقبلهم ولأوطانهم بشكل عام؟
المتظاهرون العرب، خرجوا في شوارعهم لدعم غزو صدام حسين للكويت، وهتفوا باسمه وهو على حدود المملكة يريد غزوها، وعززوا موقفه وهو يُهجِّر ملايين العراقيين، ويقتل مئات الآلاف منهم، فلم يروا فيه غدره بجيرانه العرب، ولم يروا فيه الحاكم الدكتاتور الذي يذبح شعبه، بينما رأوا صور الاستبداد والاستعباد والدكتاتورية في الرئيس السابق ابن علي فقط..!!
أنا لا أدافع عن الرئيس زين العابدين بن علي، فالشعب التونسي الذي رأى فيه منقذاً عام 1987م، ثم تحوّل عنه بعد عقدين من الزمان، هو أعرف به من غيره، لكني أعجب من غوغائية الشارع العربي، الذي تحركه برامج تلفزية موجَّهَة وموجِّهَة، ومن تقليد أعمى، وانقيادية وتسليمية أكثر عمياً، فالذين قلَّدوا الشاب (بو عزيزي)، فحرقوا أنفسهم في بلدان عربية خارج تونس، ظنوا أنهم أبطال، فلم يغيّروا إلا حالهم المتأزمة إلى الموت أو إلى العجز التام، والذين استغلوا الحالة التونسية على ما فيها من شبهات سياسية، هم أيضاً ضحايا يُحركون بريموت كونترول أحزاب وجماعات وجهات عربية وأجنبية، تتربص بمثل هذه المواقف المتأزمة، وتصطاد في المياه العكرة لا أكثر.
يوماً بعد يوم، يثبت الشارع العربي (التظاهري)، صدق مقولة الأديب الساخر الإنجليزي (برنارد شو) الذي قال عام 1950م: (إن بين كل أمة وأمة حرباً باردة، وبين كل فرد وفرد في الأمة الواحدة، حرباً باردة، وبين كل إنسان ونفسه حرباً باردة).
يبدو أن بين كل شعب عربي وآخر، أزمة من نوع ما، وبين كل عربي وعربي في الشعب العربي الواحد أزمة مماثلة، وبين العربي ونفسه، أزمة، هي أقرب للانفصام منها لأي شيء آخر.. إننا في محيطنا العربي الممتد من الماء إلى الماء، قد فهمنا النهضة التي سبقتنا إليها الشعوب الأوروبية بقرون، على أنها التحرر من الأجنبي المستعمر، ثم التحرر من الوطني المستبد، بينما فهمتها شعوب أوروبا، على أنها تحرير الضمير البشري، فهي على ذلك، كافحت العادات والتقاليد البالية، وتمردت على الكنيسة المتسلطة، واعتمدت العلوم، ومارست الفنون التي تعمل على تنوير البشرية وإسعادها، ثم تفرغت للتنمية.
فيما يبدو؛ أننا لم نتخلص من عقدة المستعمر بعد، وما زلنا نعيش ظلامية الوطني المستبد، الذي نفرزه نحن بإرادتنا، بل نمارس توثين وتصنيم الأشخاص، حتى إذا ضقنا منهم تخلصنا منهم، فأجدادنا في الجاهلية على سبيل المثال، كانوا يتخذون أصناماً لهم من تمر، حتى إذا جاعوا أكلوا أصنامهم..! ونحن كذلك نعكف على إعادة إنتاج عاداتنا وتقاليدنا البالية بشكل جيد، ونرتهن لماضينا البعيد، هروباً من حاضرنا، وخوفاً من مستقبلنا.
ينبغي أن ندرك، أن ما يرفعه المتظاهرون في أي بقعة في العالم، ليس بالضرورة هو ما تطلبه الشعوب بكافة شرائحها، لأن معطيات الحماس شيء وقتي، وحركية الحياة المتعقلة للشعوب شيء آخر. إن مما يطلبه المتظاهرون في تونس هذه الأيام: الخلافة الإسلامية..؟! أي والله.. الخلافة الإسلامية..! سوف تتحول تونس (إذن)، إلى عاصمة للخلافة الإسلامية الثالثة..! أما خليفة المسلمين القادم، فمن يختاره؟ أو من ينتخبه يا ترى..؟! وهل هو عربي من تونس؟ أم من السعودية؟ أم يكون أفغانياً؟ أو صومالياً؟
* أغاية (الحكم).. أن (تلغوا عقولكمُ)
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.