شهر واحد مر منذ ابتدأ العام الجديد. وهو عادة موسم التنبؤات المتسلقة المبنية على ما سبق.. ولذلك لم يتنبأ أحد بما حدث في تونس قبل أن يحدث فعلا.. و لا بردود الفعل القوية لتداعيات الأحداث مفاجئة الجميع.
وكالعادة, المواطن العربي لا يعرف هل يفرح أو يحزن أو يشمت أو يخاف! صفق البعض وهللوا, وزغرد البعض لثورة الياسمين, وصمت آخرون يدارون تخوفاتهم إذ يرون وراء الاحتفاء المباشر للشارع العربي بما حدث إرهاصات مخيفة لمضاعفات محتملة من الفوضى وانفلات الأمن وفتح ثغرات ينفذ منها المستفيدون والإنتهازيون.
ولو سألت الآن رجل الشارع, أو حتى الدارس المتابع لنبضات المجتمع والسياسة في أي بلد عربي, عما سيأتي به الزمن القادم، لتفاوتت التوقعات باختلاف رغبات هذه الجهة المجيبة أو تلك.
لو حدثت واقعة عربة الخضار في أي بلد عربي آخر وأحرق صاحبها نفسه احتجاجا وإحباطا، هل كان الأمر سيتطور إلى ما تطور إليه في تونس؟ الغالب أن الرد هو لا! ولكن الغريب رغم ذلك هو أن بعض أنداده في المعاناة من العرب الآخرين رأوا في ما فعله القرار الصحيح حيث يتطابق الشعور مع الفعل. وكأنه وضح لهم طريقة جديدة للتعبير واضحة وغير قابلة للإلتباس أو الإبتزاز.
وبين واحد وعشرين وطنا عربيا يعيش غالبية مواطنيها حالة الفقر والجوع والضنك والبطالة المتفشية وغلاء الأسعار ومواجهة الأزلام وتعنتهم, هناك من سارع إلى احتذاء فعل الشاب التونسي البوعزيزي مشعلا النار في جسده معلنا أنه هو الآخر - في وطنه ومجتمعه- وصل الحد الأقصى من عدم الاحتمال لأوضاعه المعيشية.
وهناك طبعا قلة محظوظة فكر من ينتمي إليها في ما أنعم الله به عليه من خيرات مواطنته ودعا ربه أن يديم نعمة الأمن والاستقرار والرفاه.
أما المثير للتفكير فعلا فهو استعداد كل الجبهات الحاضرة عربيا والمغيبة عن ساحة الفعل بتونس أو غيرها لتبني مسؤولية تداعيات انتشار التسونامي الذي بدأ بشعلة بو العزيزي.
وحتى من يدعون أنهم أحزاب دينية التوجه باركوا «ثورته الشعبية» ولم يشر منهم أحد أن الانتحار حرقا - أو شنقا أو بأي وسيلة أخرى- هو فعل غير مقبول شرعا.
المواطن العربي مشتت الهوية ومتناقض التصرفات لا يستطيع أو ربما لا يجرؤ أن يتعرف على مشاعره الحقيقية بكل حذافيرها؛ يتهرب من وضع النقاط فوق الحروف حين يتأمل علاقته ببلده أو يسأله أحد أن يعبر عنها، فهو مطالب منذ سنوات الطفولة المدرسية أن يطيع «الكبار» في البيت والمجتمع والوطن, وأن يفتخر بهويته وعروبته, وأن يعشق بلده وأن يتغنى بكل تفاصيلها ويقسم بالوفاء لها من المهد إلى اللحد؛ وحين يكبر يتعايش مع التناقض في قهر ساعات يومه وأرق ليله بالتشبث بأحلام اليقظة، والهروب إلى آفاق الهجرة أو العوالم الافتراضية, حيث يحصل على كل ما يفتقده في انحصارات الواقع الحقيقي المعاش. ولكنه لا يزيح كل كمامات التعبير.
ثم حين يعايش حدثا في بلد آخر يتفاعل معه وكأنه هو المعني بالأمر.. يرقص طربا أو ينفجر غضبا. ويترك التعبير عن الرأي للجبهات المتخصصة المتربصة لمثل هذا الحدث.