تمر المشاهد العربية في راهنها المأزوم بموجة حرجة من المظاهرات غير المنضبطة، وهي صور من صور الغضب والتعبير عن الاستياء أو رغبة التغيير في الأنظمة السياسية أو استبدالها، وليس لأحد أن يحكم لها أو عليها بإطلاق..
وكذلك فإنها لم تكن بهذه الصورة من مستحدثات الفكر السياسي الحديث ولا من عنديات النظم الحديثة كما يحلو للبعض ادعاؤه وإحالته إلى الثورة الفرنسية بوصفها أم الثورات العالمية التي حوّلت الأنظمة القديمة إلى أنظمة دستورية «ديمقراطية» «ليبرالية» نيابية تداولية انتخابية، فغيّرت بذلك أنماط الحُكْم في بقاع كثيرة من العالم باتجاهاته الثلاثة: الشرقي الماركسي والغربي الرأسمالي، وما عرف بالعالم الثالث بكل تناقضاته وادعاءاته وتذبذباته.
والمنقب في غياهب التاريخ السياسي، وبخاصة الفكر السياسي الإسلامي، يجد أن العامة قد تُعبِّر عن استيائها ومعارضتها بالمسيرات الجماعية والهتافات الصاخبة؛ إذ عُرفت التنظيمات السرية والعنف الطائفي والتعصب المذهبي والتكتل الحزبي منذ فجر التاريخ الإسلامي، وأول تنظيم بعيد الغور واضح الأثر ما قام به العنصر الفارسي تحت غطاء «الهاشمية» لإسقاط الدولة الأموية على يد «أبي مسلم الخراساني»، وفي شيخوخة الدولة العباسية نشط الموالي وقامت الدول المتتابعة. وفي العصر الحديث اختلط الموروث بالمستجد، وتبدت أنظمة متعاصرة متجاورة، في ظاهرها الوفاق وباطنها من قبله العداوة والشقاق، فيما أخذ الغرب وضعه السوي عبر حكومات مدنية متعلمنة ومؤسسات فاعلة غيّبت حكم الفرد، وبعثت في النفوس الثقة والاطمئنان، وإن لم تسلم مشاهده السياسية من معارضات عارضة، لا تلبث أن تضمحل، وإن تخطت سلطة المؤسسة فإنها حراك منظم ومحكوم بضوابطه ومشروعيته، وكذلك المؤسسة قد لا تتلاءم مع الأغلبية، وقد تضيق الأقلية ببعض إجراءاتها، ولكن الجميع حاكماً ومحكوماً وأغلبية وأقلية محكومون بنُظُم وقوانين ودساتير لا فكاك من مقتضياتها إن عاجلاً أو آجلاً، وكم نرى ونسمع رئيساً أو مسؤولاً يُسْتدعى ولو بعد حين للمحاكمة أو المساءلة، ولقد تُفتح ملفات معارك أو تدخلات مضرة بالمصلحة ليكون الرأي العام على بيّنة من أمره، «ومَنْ أَمِن العقاب أساء الأدب».
ولمَّا نرَ في العالم الثالث شيئاً من ذلك، وإن ادعى التعالق مع العلمنة «واللَّبْرلة»؛ ذلك أن شعوبه لم تُهيأ جدياً لاستيعاب المستجد والتفاعل معه، ورهان المؤسسات موكول بثقافتها، فمتى أريد للمؤسسة أن تؤدي دورها وجب أن تُشاع ثقافتها وأن تُجسَّر الفجوات بينها وبين المحكوم بها؛ فالإكراه على القبول وفرض الأنماط مظنة الاحتقان ثم الانفجار في أي لحظة، ومثل هذا التبني الظاهري لأنظمة الشرق أو الغرب يحول دون التفعيل الإيجابي، فيما يظل الرأي العام متذبذباً بين القبول الضجر والرفض المستبطن، وهذا التململ البركاني يحفز المؤسسة السياسية المهيمنة على ممارسة الأطر بالإكراه عبر مؤسسات قمعية تُكره الناس على أن يسمعوا ويطيعوا، وقد لا تملك القدرة على الحوار والاستمالة والإقناع، والأدهى والأمرّ انشقاق الرأي العام على نفسه، بحيث تلتطم أمواجه الصاخبة بين معارض ومؤيد ومطيع ومتمرد، وعندها تتجلى القابلية للتدخلات الخارجية وتسريب اللعب السياسية القذرة، وقد تُصَعَّد المعارضة وينجر المتظاهرون إلى التعبير عن الاستياء بتجاوزات تخل بالأمن وتُعرّض الممتلكات للتدمير؛ الأمر الذي تضطر معه السلطات الحاكمة إلى المواجهة المسلحة لحفظ الأمن وصيانة الممتلكات وأطر التعبير عن المواقف بالمسيرات والهتافات السلمية بوصف ذلك من مقتضيات حرية التعبير التي يكفلها الدستور ويؤكد عليها الناشطون في حقوق الإنسان، وليس شرطاً أن تكون المظاهرات ضد النظم السياسية؛ لقد رصد التاريخ تدفق العامة ضد العلماء الذين يخالفون السائد، وكم من عالِم سجنه العامة في بيته ومنعوه من شهود الجماعة، أو طاردوه في سوقه، وقد يمتد الاستياء إلى إحراق كتبه أو تمزيقها، وقد يضطر الحاكم تحت ضغط العامة إلى سجن العالِم أو نفيه أو إكراهه على التخلي عن رأيه. وسِيَر أعلام النبلاء «للذهبي» مليء بالأخبار المثيرة.
ولقد يكون الغلاء كالغلو في الدين؛ فحين ترتفع أسعار السلع الاستهلاكية أو حين يشح وجودها في الأسواق يندفع المتظاهرون إلى التجمهر على أبواب السلطان ومطالبته بالتدخل لتوفير السلع أو التسعير والحدَّ من التضخم، وفي أبواب البيوع عند الفقهاء حديث مستفيض عن حكم التسعير، ولقد حصل هذا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يستجب لمطالب العامة مشيراً إلى أن الله وحده المسعر، وفي الأثر: «إني أحب أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة». ومَنْ خلف من مجتهدي الفقهاء عالجوا هذه المسألة، وتوصلوا إلى جواز التسعير بضوابطه بحجة اختلاف الفتيا باختلاف الأحوال، وبخاصة إذا كانت الدولة تسهم في دعم بعض السلع أو تخص المستوردين ببعض المساعدات والتسهيلات، واللغط الدائر حول تغيير الفتوى يحتاج إلى فقهاء وأصوليين يستطيعون ضبط المسألة والحيلولة دون انفلات الأحكام. ولقد نظر العلماء في تصرفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفرقوا بين الفتيا والأحكام والخاص والعام وما فعله بصفته الشخصية البشرية وما قاله أو فعله أو أقره بصفته النبوية فيما هو معدود من التشريع الملزم. وتقصيات العلماء أتت على كل التساؤلات، والذي يهمنا بهذا الصدد أن اعتراض الرأي العام وتعبيره عن مواقفه يأخذ أشكالاً متعددة ليست كلها من معطيات العصر الحديث ولا من عنديات الثورة الفرنسية، والمؤرخون لها من العلماء المحايدين يضعونها في حجمها الطبيعي، ويحُدُّون من تدفق العواطف غير المتوازنة.
والعالَم العربي هذه الأيام يعيش حالة من المخاضات الموجعة، وتداعياته العاطفية أججت المشاعر وأبدت هشاشة السلطات، حتى لقد خيف من انفلات الأمن في مواقع كثيرة، والتحمس لهتافات الجماهير وتدفقاتهم المحمومة يجد أنها تنادي بإسقاط السلطة، ومحاكمة رموزها، دون طرح مشروع بديل، يتلقى الراية، ويصرف الأمور، وينشئ دولة ذات دستور ومؤسسات مدنية ومجالس نيابية وآلية حضارية لتداول السلطة، وتحقيق الشطر الأهم من المطالب سيُحدث فراغاً دستورياً له ما بعده، فالاختلافات بين المنتصرين ستكون بشعة؛ لأنها خلافات متجذرة في الأنساق الثقافية، وصراع الأفكار يسبق الصراع المسلح ويجهز له، وفي كل دولة عربية تعددية طائفية ودينية وفكرية وعرقية، وأولويات سياسية وقومية، فالمتظاهرون لا يجمعهم هدف، ولا توحدهم رؤية، ولا يرضيهم صف، وذلك مكمن الخطورة، فالشوارع المكتظة بالبشر تجتمع أجسامهم وتتناغم هتافاتهم، ولكن المؤجل من الرؤى والتصورات والانتماءات الطائفية الحزبية والعرقية والفكرية هي الأخطر والأصعب على الحل، ومتى سقطت السلطة التي يلتقون على معارضتها وتخوينها قامت الخلافات حول شكل البديل، ومنطلقاته وأحلافه ومشاريعه.
وأخطر شيء في مثل هذه الظروف العصيبة صراع الإسلاموية والعلمانوية والعرفية والإثنية، وما من بلد إلا وله قسم معلوم من هذه الأطياف، ولقد يجمعها الاهتياج العاطفي، حتى إذا ذر قرن الفراغ الدستوري أقبل بعضهم على بعض بالتصفيات العنيفة التي يصمت فيها اللسان وينطلق السنان، فمن يحكم؟ وبماذا يحكم؟ وما آلية الوصول إلى الحكم؟ وإذا اقتسم المتناحرون الحقائب واستأثر الطيف الأقوى بالحقائب السيادية عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وأصبحت الأمة غُنْماً لا غرماً.
والدساتير في العالم الثالث كالتاريخ لا يكتبها إلا المنتصر، ولقد يكون من السهل العبث في مواد الدستور بالتغيير أو الحذف أو الاستبدال متى فوجئ الحاكم بأمره بأن مادة في الدستور تحول دون مصالحه الشخصية، وقد يعطل الدستور وتعلن حالة الطوارئ لسنوات عجاف لا يأتي من بعدها عام فيه يُغاث الناس وفيه يعصرون. وتراكم المشاكل وتعاقب الحكومات يخلق واقعاً رديئاً ليس من السهل الفكاك منه، ومن ثم تنشأ أخلاقيات وأزمات واختناقات ومراكزُ قوى وعِصابات وجماعات ضغط، مما يدفع بالدولة إلى تنازلات وأحلاف تَشل حركتها، وتسلبها الحرية، وتحملها على الوعود الكاذبة والتمويه والتسويف واستغلال الوقت لإرجاء الانفجار، وكل هذه الظواهر مؤذنة بتدفق الكتل البشرية في الشوارع بحركات جنونية تحكمها مقولة: «عليّ وعلى أعدائي» و»إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر». وعندما تبلغ الروح الحلقوم ويبلغ السيل الزُّبى تُقال الحكومة ويَعِدُ المستهدف بحزمةٍ من الإصلاحات، وكأني به وقد أدركه الغرق قال: آمنت، والاستدراكات المتأخرة لا تطفئ لظى الغضب، بل تفتح الشهية لمزيد من التنازلات حتى لا يكون بُدٌّ من الهرب في جنح الظلام مثلما فعل «ابن علي».
ومع كل ذلك فإن على المتدفقين في الشوارع أن يعرفوا الثمن الباهظ الناتج عن الفراغ الدستوري، إنه طاعون الشعوب، وعلى الحكام أن يعوا خطورة الغضب الجماهيري، وأن يستبقوا الإصلاح لنزع فتيل الانهيارات الأمنية والفوضى السياسية.
.. وبعد:
كنت ولمَّا أزل أشفق على أي بلد عربي تجتاحه الفوضى أو المجنزرات؛ فالاضطرابات كالحرائق إنْ لم يمْسَسْك لهبها أصابك دخنها الخانق، والبلاد التي تجتاحها المظاهرات ستكون في نظر السائحين والمستثمرين موبوءة وغير جاذبة. وتعويض الخسائر وحفظ العملة وإنعاش «البورصة» وإعادة الثقة باهظة التكاليف بطيئة الإفاقة.
ولهذا لا بد من الحسابات الدقيقة قبل الإقدام على مغامرات أقل نتائجها الفراغ الدستوري واختلال الأمن وانهيار الاقتصاد وفَقْد الثقة، وكم من زعيم أماتته الأحداث وإن أكل الطعام ومشى في الأسواق.