لماذا كل هذه الضجة حول الفتوى في المجتمع السعودي؟
بعيداً عن التفاصيل والتعريفات التي لا يحتملها مقال صحفي كهذا، سأحاول إجابة السؤال أعلاه من خلال عرض الأبعاد التي تُشكِّل أهمية الفتوى وتجعلها تتجاوز مجرد كونها قراءة نص شرعي إلى قضية حيوية لها تداعيات وآثار متنوعة ومتشعبة.
أولاً: الفتوى تتداخل مع النظام - القانون.. عندما تكون الشريعة هي النظام أو مصدر التشريع، فإن الفتوى قد تصبح قانوناً أو مصدراً للدستور والتشريع على اعتبارها تُمثّل إجازة أو رفضاً لمبدأ شرعي؟ من هنا يصبح الأمر طبيعياً أن يرى البعض الفتوى ملزمة التطبيق بالذات عندما تصدر الجهة الوحيدة المخولة بإصدار الفتوى وفق التوجيهات الملكية الأخيرة.
ثانياً: الفتوى تتداخل مع الرأي.. البعض يرى أن قول الرأي في مسألة دينية أو تشريعية تُمثِّل رأياً ويفترض أن لا يحمله البعض أكثر من ذلك.. وفي ظل التنافس والتجاذب الفكري والأيدلوجي.. سواء داخل المدرسة الأيدلوجية الدينية الواحدة.. أو بينها وبين أيدلوجيات ومدارس أخرى، يصبح طبيعياً أن تسعى بعض الأطراف إلى استخدام الفتوى كرأي يسمح لها بالتأثير على الآخر وكسب أكبر قاعدة شعبية تصب في مصلحة الأيدلوجية والفلسفة والمدرسة الفكرية.. أي أن الفتوى تستخدم هنا كأحد أسلحة الصراع والسجال الفكري.
ثالثاً: الفتوى تتداخل مع البحث العلمي والفكري.. حيث يقدم البعض الفتوى، أو ما يُصنف كفتوى، باعتباره نتيجة دراسات وبحوث علمية تعيد قراءة وتحليل النصوص والمواضيع وفق سياقات علمية واجتماعية وإدارية معاصرة تتوافق والذهنية الحديثة.. إلغاء الفكر والبحث العلمي في جوانب الحياة بما فيها تلك التي تتقاطع مع جوانب دينية يعني الحكم على المجتمع وتطوره بالجمود.. ويعني إهمال أهمية مراكز البحث والمجامع العلمية التي تُعنى بهذا الشأن.. وليس هناك شك بأن إحدى معضلات الأمة الإسلامية تكمن في إهمالها البحث والاجتهاد في إعادة قراءة النصوص ومدلولاتها وفق السياقات العصرية المناسبة.
رابعاً: الفتوى تستخدم كوسيلة تحريضية.. حيث إن البعض لا يكتفي بقول رأيه في المسألة الشرعية المعروضة.. بل يحرِّض على إيذاء الآخرين الذين يعارضونه الرأي أو لخصوم مدرسته الفكرية بصفة عامة.. بعض الفتاوى تتلبّس لبوس النهي عن المنكر ومقاومة البدع ومحاربة المفسدين ونصرة الإسلام والمسلمين.. وبقصد أو بدون قصد تتجاوز النصح والتوجيه للمعروف.. وترك المنكر إلى الحث على استخدام وسائل العنف كوسيلة للتغيير.
إذاً القضية شائكة، تتداخل فيها عدة عوامل، فإن تُركت دون ضوابط فإنها قد تخل بالجانب الإداري والأمني.. وإن حُصرت بشكل دقيق في فئة محددة.. فالخوف هو تأثير ذلك على حرية الرأي والبحث العلمي والانتصار لفئة أو مدرسة فكرية أو أيدلوجية ضد الأخرى.
تقنين الفتوى وضبطها يجب أن لا يتحوَّل إلى وسيلة لحجب الرأي وكتمان العلم وتهميش البحث والاجتهاد في القضايا المختلفة.. كما أنه لا يجب أن يتحوَّل إلى مصدر (استقواء) من فئة ضد أخرى في مجال السجال الفكري والتنموي.
يجب أن نؤمن بأن التطور الفكري، ووقوده حرية الرأي وحيادية البحث والدراسة، مثل غيره يعلو ويهبط ويتخلله بعض الشوائب.. لكن في النهاية يصمد منه ما هو جدير بالبقاء وفق قواعده العلمية وصيرورته الاجتماعية والإدارية، والشواهد كثيرة في هذا الشأن.