تهيمن الحكومات الشمولية على معظم دول العالم الثالث حيث تتركز السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في يدها.. إضافة إلى سيطرتها على الإعلام وهو السلطة الرابعة التي لا تمثل في الغالب إلا وجهة نظر ورأي الحكومة فقط ويُهَمَّش ما دون ذلك.. كذلك توجيه الحركة الثقافية في هذه الدول لخدمة الرأي السياسي.
هذا المشهد العام له إفرازات مؤثرة منها: حدوث فجوة كبيرة بين الحكومة الشمولية والمواطن لاختلاف الأهداف والاتجاهات.. مما يُضْعف الجبهة الداخلية وتماسكها ويوفر فرصة لاختراقها.. كما يخلق بيئة صالحة لانتشار الفساد المالي والإداري.. ويتفشى الإحباط النفسي لدى المواطنين.. وتُقتل روح الابتكار والإبداع والتطوير.. ويزدهر الاحتكار للمناصب الرسمية.. وتُرفع البطانة إلى درجة الثراء الفاحش وتسقط الكفاءات إلى درجة التهميش والفقر.. وهذا يزيد في التخلف التراكمي.. ويذيب الطبقة الوسطى.
في المقابل تقوم دول العالم الأول على نظام المؤسسات وفصل السلطات والاستقلالية وكفالة الحريات.. لذلك هذه الدول تقوم على مكونات وقوى مؤثرة كثيرة مثل: قوى القرار السياسي.. الإعلام.. مراكز الدراسات والأبحاث.. الشركات الكبرى.. مؤسسات المجتمع المدني (الدينية، الأحزاب، النقابات.. إلخ).
هذه الدول لأنها متقدمة وقوية.. تمتلك التأثير السياسي على دول العالم الثالث ذات الحكم الشمولي.. وتتعامل معها من خلال عاملين مهمين هما المصالح والمبادئ.. وتغلِّب أحدهما على الآخر حسب القضية والوضع القائم.. فتارة تقدم المصالح وأخرى تقدم المبادئ ثم تمزج بينهما تارة أخرى لتحقيق أهدافها.. فالمبادئ ثابتة كالإنصاف والعدل والحرية والمساواة.. وهي مبادئ لا يمكن أن تتغير وإن اختلف الناس في ابتعادهم أو اقترابهم منها.. إلا أن المصالح تتغير.. فالقاعدة السياسية هي: لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة.. إنما هناك مصالح مشتركة.
من هنا.. ما هو المشهد العام لواقع العلاقة بين العالم الأول والعالم الثالث؟.. لقد بدأت مسيرة إذابة الثلوج بين شعوب العالم الأول وشعوب العالم الثالث.. إذ لأول مرة تشعر دول العالم الأول أن مصالحها تشترك مع مصالح شعوب دول العالم الثالث في قواسم مشتركة.. ولأول مرة تشعر الحكومات الشمولية بأن عليها أن تقدم التنازلات لكي تستمر.
وما هو المشهد العام لواقع الحكومات الشمولية اليوم؟.. إن القارئ للوقائع والأحداث يجد أنها مستعدة لتقديم تنازلات للبقاء والاستمرارية.. ولكن الخلاف هو في كم ونوعية هذه التنازلات.. فهي لا تريد أن تفقد السلطة من جهة كما أنها لا تريد أن تفقد الهيمنة والسيطرة على مجتمعاتها من جهة أخرى.. بل تريد أن تقدم تنازلات محدودة تحافظ على وحدة البلاد وتُبْقي خيوط اللعبة كما هي.. وهذا ما تناور وتراهن عليه الآن.