نتابع بألم وقلق تداعيات الأحداث الجارية في مصر، ويدرك العاقل مدى انعكاسها على الأوضاع العربية والإسلامية، خصوصا بعدما دخلت نفقا مظلما بل ومخيفا من التخريب والانفلات الأمني المريع، ولعل أغلبنا شاهد النيران وهي تلتهم مراكز الشرطة، وسمع عن السطو على مستشفى أطفال أمراض السرطان الخيري، فضلا عن عمليات النهب لأحد المصارف قرب المتحف الوطني.
والتظاهرات الشعبية (عموما) تحمل طابع المطالبة بالتغيير وإعطاء الشعب فرصته بالمشاركة في الحكم، والمناداة بمحاربة البطالة والغلاء، وتردي المعيشة، وربما تكون دوافع معظمها عاطفية بحتة حين تحمل بين جوانحها الحماس المدفوع بالبحث عن البدائل السياسية التي غالبا لا تكون بمستوى الطموحات، أو أن تكون دوافعها نشد العدالة، لأن أحد أسباب الفتن غياب العدل، فالظلم يولّد الفوضى وهو نتيجة لعدم تكافؤ الفرص !
ولا شك أن حلم التغيير والتطوير في السياسات وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والتنموية المرافقة لتطورفكر المجتمع مطلب جميع الشعوب، بيد أن الاختلاف في الأسلوب الذي يطمح أي عاقل ألا يكون بالثورة العارمة، والعبث والفوضى والانفلات الأمني والخسائر في الأرواح والممتلكات.
والديمقراطية هي بالواقع (الوهم العربي) و(السراب الأزلي) الذي تلاحقه الشعوب العربية على وجه الخصوص بينما قد لا يكون من مصلحتهم ممارستها. فالمطالبة بالحرية والتعبير عن الرأي أساءا للعرب كثيرا، حين لم يحسنوا استخدام حدودهما واحترام أبعادهما ! وقد تحول التعبير عن الرأي إلى قلة أدب وخروج عن اللياقة (أحيانا) كما حدث في بعض الدول العربية؛ وإنه ليخشى إن ترك الباب مفتوحا للحرية على مصراعيه فإنه قد يدخل ما ليس مقبولا ولا ملائما لتلك الشعوب المحافظة. لذا كان من الصالح العام مواربة باب الحرية، أو اللجوء لشعرة معاوية الذي طال حكمه دون أن تنقطع شعرته المشهورة. ومن هنا يكون من الحكمة عدم تجاهل مطالب الشعوب أو تهميش جميع فئاته والاكتفاء بحقنهم بالوعود. كما يحسن عدم الاستهانة بحقوق الحكام والمسؤولين على طول الخط أو رميهم بالفساد! فليس من العدالة ولا الديمقراطية ولا حرية الرأي الدخول بالذمم والقذف ما لم نكن على اطلاع وثيق بملفات الفساد، فرمي الكلام على عواهنه جعل المفسد يزداد فسادا دون اعتبار للرأي العام، حينما تساوى مع النزيه عبر معادلة غير عادلة ! برغم اتفاقنا أن الفساد يبطئ بعجلة التنمية، فضلا عن قهره النفوس وسلبه الانتماء من قلوب المواطنين، ومساهمته في نهب مقومات الأوطان. وينبغي على الحكومات أن تولي اهتماما كبيرا بمكافحة الفساد بإيقاظ الضمير الجمعي، وتأصيل الانتماء للوطن، وتحقيق العدالة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين، وإشباع حاجاتهم الأساسية التي لها مساس في حياتهم ومستقبلهم وأمنهم من السكن والتعليم والصحة.
والواقع إن ما يحدث في مصر الجريحة يجعلنا نصاب باللوعة على ما ألم بأهلها من إحباط ويأس كانت نتيجته الزحف نحو الشوارع في محاولة للتعبير عما ناله بعضهم من تهميش وإقصاء عن المشاركة في صنع القرار برغم مساهمتهم في الإصلاحات، إلا أنهم تحولوا دون أن يدركوا إلى وقود لهذه النار الملتهبة.
وإن كان أبناء مصر الأحباء ممن كانوا لنا أساتذة ومعلمين ومهندسين وعمالا مهرة نشأت على أيديهم أجيال من بلادي الحبيبة، وشُيدت بسواعدهم بنايات شاهقة. فإننا لاننسى قط فضلهم علينا حين كانت بلادنا ترسف في قيود الجهل. وهذا الجميل يتطلب وقوفنا معهم بمشاعرنا والدعاء لهم بألسنتنا وقلوبنا أن يحفظ الله مصر وأبناءها وشيوخها،كما حفظ نيلها العظيم من الجفاف على مدى السنين.