كثُرَت تداعيات ما سُمّي بكارثة جدة، وفي الوقت نفسه تعددت أساليب الطرح والمعالجة، وتباينت التحليلات والتوقعات، وتنوعت المطالب والتطلعات، سواء الفردية منها أو الجماعية أو الرسمية، وكشفت الصحافة السعودية بالأرقام والوثائق والتواريخ أن هناك تهاوناً في تنفيذ المشاريع المفصلية والمهمة، وعدم اكتراث فيما يصدر من توجيهات وقرارات صريحة وواضحة من قِبل بعض مديري الإدارات الوسطى، خاصة البلديات التي هي الآن تُسمّى أمانات!! وعلى فكرة، أذكر متى استُبدل هذا الاسم كما يذكره غالبية القراء الكرام، ولكنني لا أعرف سر هذا التغيير، ولا أدري هل يعي سعادة الأمين في أي منطقة كان ما دلالة هذا النعت وما منزلته وشرفه عند الله وبين الناس؟..
لقد كان «الأمين» الوصف الأكثر شيوعاً بل ربما الأوحد لأعظم رجل في التاريخ قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، وما ذاك إلا لأهمية وخصوصية هذا الإطلاق في مجتمع بسيط له متطلبات محدودة وتطلعات معروفة، فكيف به الآن؟ لذا ليس هيناً على النفس أن تجد من بين هؤلاء «الأمناء!» مَنْ يختطف مشاريعنا الوطنية سواء بصورة مباشرة أو من طرف خفي. إن أي لون من ألوان الاختطاف يُصنَّف في خانة الفساد وقد يتولد عن هذا الفعل مع تكراره والمجاهرة باقترافه والتهاون بما ينجم من جراء التلاعب به ردة فعل عنيفة من قِبل المواطنين شعوراً منهم بالقهر وخوفاً على ممتلكاتهم وأرواحهم، وتصير مجموع هذه الأفعال والردود مع مرور الأيام مثل كرة الثلج تكبر وتتفاقم حتى لحظة الانفجار لا سمح الله.
إنَّ بين ما تنفقه الدولة من أموال وما يتطلع إليه الشعب من أعمال ما يسمى بالإدارة الوسطى، وهي المسؤولة عن التخطيط والتنفيذ والمتابعة ومن ثم المكافأة أو المحاسبة حسب اللوائح والأنظمة التي سنَّها المشرِّع وحدَّد فيها الصلاحية والأدوار، والخلل في هذه المنطقة خطير وقاتل، وكلما اتسع البَوْن بين هذه الأطراف الثلاثة تأزمت العلاقة وفسد الود وبدأت عبارات الاتهام تنهال والشكوك تدور حول أشخاص معينين يقدمون مصالحهم الخاصة على كل شيء، ويضربون بمصلحة الوطن وما ينفع المواطن عرض الحائط، وهم بهذا الصنيع يخلون بالأمانة ويوظفون الإدارة الوسطى لخراب البلاد وهلاك العباد - للأسف الشديد - والتماسك المجتمعي الذي ننعم به في هذا الوطن المعطاء حتى هذه اللحظة، وسيبقى - بإذن الله - ويدوم، ويرجع ذلك - بعد توفيق الله وعونه - إلى أمور عدة، لعل على رأسها حجم الإنفاق العام على مشاريع البنية الأساسية من قِبل ولي الأمر.
لكنَّ المُقلق هو انشغال الطبقة المثقفة والواعية من الجماهير بمصالحها الشخصية وأعمالها اليومية عن ممارسة المراقبة والنقد، وربما عدم اكتراثها بالشأن الداخلي في هذه المرحلة لصلاتها الخارجية وعلاقاتها الدولية، إضافة إلى هذا عدم الوعي لدى شريحة أخرى من «الجماهير» بالنظام، وجهلهم بما لهم من حقوق وما على مديري العموم أو حتى الوزراء من مسؤوليات ومهام يجب عليهم القيام بها والوفاء بمتطلباتها تحقيقاً للمصلحة وضماناً للسلامة؛ لذا متى ما تغيّرت معادلة التوازن هذه بأن قَلّ الإنفاق الحكومي وارتفع وعي المواطن وارتبط المثقف/ الاقتصادي بهموم موطنه الداخلية فإن سرعة تراكم الجليد على الكرة الثلجية ستكون مذهلة وبشكل مخيف، ولعل من بين مؤشرات التغير المتوقعة والمرشحة للتأثير المباشر على معادلة التوازن الحالية عودة المبتعثين ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين للتدريب والابتعاث؛ فهم مَنْ سيعقد المقارنات وسيطالب بتحديد المسؤوليات وتفعيل قنوات المراقبة العامة ومن ثم المساءلة والمحاسبة، فضلاً عن الشفافية والمصداقية وعدالة التوزيع ومنح الحقوق وتحديد الأدوار، وهذا لا يعني أن غيرهم في هذه الأيام قد قصر أو تهاون في المطالبة والمطارحة؛ فصحافتنا السعودية في ظل مساحة الحرية التي تتسع بشكل كبير في العهد الجديد مارست وبشكل واضح وبيِّن حقها المشروع في النقد والمطالبة بالتصحيح ومعالجة القصور، ولكن فرق بين ما يطرحه ويطالب به عدد محدود من الكُتّاب والأكاديميين ومطالبة جمع من الشباب الذكور والإناث عادوا إلى الوطن وهم يحملون الشهادات العليا وبتخصصات مختلفة ومشارب متعددة واتجاهات متنوعة ومعهم الطموح والتطلع والأمل، يدعمهم ويشد من أزرهم ويبارك خطواتهم الساعية إلى نقل بلادهم إلى مصاف الدول العظمى المتقدمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - أعاده الله عز وجل إلينا سالماً غانماً معافى، وألبسه ثوب الصحة والعافية - فهو في عيوننا نحن السعوديين عنوان الإصلاح ورمز البناء وممثل الشفافية الأول ومجدد الأمل بغد مُشْرق بنّاء، ومحفز الشباب للقيام بكل ما من شأنه رفعة بلادهم وسعادة سكانها وقاطنيها؛ لذا أتمنى مثل غيري أن يراجع كل مسؤول نفسه ويقيّم قدرته على أداء الرسالة التي أُنيطت به من قِبل ولي الأمر أو مَنْ ينوب عنه؛ فإن عرف عجزه وضعفه وعدم قدرته على الوفاء بمستلزمات المنصب فالاعتذار خير له ولهم لو كانوا يعلمون، وكما قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذر «إنها أمانة وإنك ضعيف...». وإلى لقاء، والسلام.