المضاربة ملح السوق وهي كما نعلم محفزة للكتل المالية والمستثمرين من أفراد المجتمع لتمويل تأسيس الشركات وتمويل عملياتها التشغيلية، ولكن متى ما زاد هذا الملح أصبح قاتلا للاقتصاد الحقيقي الذي يزيد الدخل القومي، ويخلق فرص العمل، ويدعم عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وزيادة الإنتاج ودعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات فالمضاربة النشطة تجعل الكثير من المستثمرين يعرضون عن الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي والتوجه للاستثمار في السوق المالية عبر المضاربة اليومية وهو أمر عادة ما يؤدي لضياع مدخراتهم ورؤوس أموالهم لكون أكثرهم لا يعرفون أبسط قواعد الاستثمار في مثل هذه الأسواق عالية المخاطر.
والمضاربة ليست محصورة في السوق المالية بل إنها منتشرة في أسواق أخرى وهناك ما يعرف بالأموال الساخنة التي تتنقل بين الأسواق للمضاربة فيها لتنمو على حساب تلك الأسواق والمتعاملين فيها من منتجين ومستهلكين ووسطاء، وكلنا يعلم أنه ما أن انهارت سوق الأسهم السعودية في فبراير 2006م حتى اتجهت السيولة إلى المضاربة في السوق العقارية فرفعت أسعار الأراضي والمنتجات العقارية بالتبعية بأضعاف مضاعفة الأمر الذي أضر بالسوق العقارية بالمحصلة حتى أصبحت عاجزة على توفير المنتجات العقارية للمستهلكين بأسعار متناولة ما اضطر الحكومة للعمل الجاد لإيقاف المضاربات لإيقاف الارتفاعات القاتلة للتنمية ولدفع الأسعار للعودة لما هو معقول مقارنة مع متوسط دخول المستهلكين.
واليوم ونحن نشاهد الارتفاع التدريجي في السيولة في السوق المالية ونسمع دعوات هنا وهناك لحث المواطنين للعودة للمضاربة في سوق الأسهم بعد أن نجحت الحكومة عبر جملة من التصريحات بتقليص المضاربات على الأراضي بدأ الكثير ممن يريدون للمليارات أن تتجه للاقتصاد الحقيقي يشعرون بالقلق خوفا من اعتياد المستثمرين المالكين لتلك المليارات على الاستثمار الكسول والمتراخي الذي لا يتطلب أي جهد فهو لا يتطلب تأسيس منشأة اقتصادية ولا توظيف موظفين، ولا استخراج موافقات وتراخيص وحسابات ورواتب.
وباعتقادي أن هذا القلق مبرر فسهولة أداء الأعمال في أي نشاط استثماري تحفز المستثمرين للاستثمار في ذلك النشاط، ولكون المضاربة لا تتطلب سوى الهوية الوطنية وبيع وشراء قليل الإجراءات والتكلفة والوقت فالكل يريد أن يستثمر بها لتحقيق الأرباح وزيادة أمواله، وباعتقادي أن سهولة أداء الأعمال في نشاط المضاربات في الأسواق المالية والأسواق العقارية هو السبب الرئيسي الذي يقف وراء توجه الكثير من المواطنين للاستثمار في هذين القطاعين رغم ارتفاع مخاطر الأول بشكل كبير جدا.
ما الحل إذا لدفع أموال المستثمرين نحو الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي؟ بكل تأكيد تسهيل أداء الأعمال بحيث يستطيع المستثمر الاستثمار بكل سهولة بأقل الإجراءات والتكاليف وأقل الأوقات، وكلنا يعلم أن هيئة الاستثمار أطلقت مبادرة عشرة في عشرة لتحقيق هذا الهدف وحققت المركز الحادي عشر عام 2010م ورغم هذا النجاح إلا أن المطلوب المزيد من الإصرار لتطبيق ما تم إقراره من أنظمة وإجراءات من ناحية والمزيد من الإصرار لمعالجة كل عوائق سهولة أداء الأعمال التي لازالت قائمة، كذلك من المطلوب أن نتحرك باتجاه معاكس من جهة المضاربة حيث علينا أن نرفع تكاليف وإجراءات المضاربة وإطالة وقت تنفيذها حتى ندفع بالمزيد من الأموال الاستثمارية نحو الاقتصاد الحقيقي ونكسر شوكة المضاربة مهما قيل عنها ومهما عملت وسائل الإعلام والإعلان للترويج لها وإلا فإن رأس المال المضارب سيسيطر الاقتصاد الحقيقي ويتحكم به وهو أمر لن يأتي بخير.