لا بد أن يتغير مفهوم الثقافة بتغير المعارف عبر الزمن، ولا بد لمفهومها أن يتبلور في كل حقبة من حقب التاريخ المتعاقب، فلا يمكن أن يظل مفهوم الثقافة محصوراً فيما ألفناه من فنون الأدب شعراً ونثراً وتاريخاً وقصة ورواية وغيرها من فنون كانت ترمز للثقافة في ذلك الزمن، ولم تعد تلك المفاهيم للثقافة مقبولة في زمن تغير إلى زمن المعارف ودخول أدوات للتواصل المعرفي تجاوزت الكتاب إلى غيره.
الثقافة أصبحت تشمل مع ما سبق، ثقافة المعرفة، وأساليب نقلها للآخرين وممارستها، وأصبحت الثقافة تشمل في مفهومها الواسع أنماط التربية وهياكل الإدارة، وثقافة الاقتصاد ومفاهيمه، ومعرفة علم النفس والاجتماع وغيرها من المعارف التي يتلهف عليها الناس جميعاً. والثقافة تجاوزت حفظ أبيات من الشعر، والنثر، وطلاقة اللسان، إلى الإبداع في توصيل المعلومة، والتعامل مع التلفاز والإنترنت، والجوال، وغيره من صنوف التواصل الثقافي.
والمثقف لم يعد ذلك الذي يحفظ أبياتاً لامرئ القيس وعنترة والنابغة، وعمرو بن ربيعة، وجرير، والفرزدق، والأخطل، والمتنبي، وأبي فراس الحمداني، وشوقي، وحافظ إبراهيم، أو ذلك الذي ترسبت في ذاكرته بعض من قصص كتاب البخلاء للجاحظ، أو كليلة ودمنة، وما ترجمه ابن المقفع، أو عبدالحميد الكاتب، أو من يعرف شيئاً عن ابن زيدون، وابن شهيد والمعتمد بن عباد، ولسان الدين بن الخطيب، وابن خلدون ومقدمته وتاريخه، أو حتى ابن عربي وابن رشد في فلسفته. لقد تجاوز مفهوم المثقف أولئك المجموعة الكريمة من المقتصرين على ذلك الميدان إلى شرائح أكثر فائدة، وأطول باعاً، وهم من يستطيع التعامل مع معطيات العصر من أدوات التواصل وإيصال مفهومه عبرها، وكذلك الذي يمكنه أن ينقل المعلومة من المفهوم إلى الممارسة كما شاهدناه في بعض البرامج التلفزيونية التي نقلت لنا بعضاً من سلوكيات الشعوب على أرض الواقع وكيفية تعاملهم اليومي الذي لا يحتمل التهاون والتراخي، كما لا يحمل بين جنباته عادات عدم المبالاة مثل رمي النفايات في الطرقات أو البزق في الشارع أو التأخر عن المواعيد وخلاف ذلك من علامات فارقة بين سلوكيات الدول النامية والمتقدمة.
المثقف في مفهوم عصرنا الحديث هو ذلك الذي تجاوز الجدلية، والمدح، والقدح، والنفاق، والشقاق، والأخذ والرد فيما لا يجدي، أو ذلك الذي يناور ويحاور في فلسفة لا طائل منها، ومفاهيم لا تصل بالمتلقي إلى فائدة عملية يستفيد منها، إنما هي مفاهيم تؤدي إلى مفاهيم، وتلك المفاهيم تؤدي إلى مفاهيم، وهكذا يخرج المتلقي بتفسير الماء بعد الجهد بالماء.
لم يعد لذلك النوع من المثقفين في ظني موقع قدم لقيادة الثقافة، ولم يعد لهم مكانا للريادة، فثم من تجاوزهم بمراحل عديدة، ولم تعد الشهادات العليا ذات دلالة بعد أن كثرت واختلط فيها الصالح بالطالح، والصحيح بالسقيم، والنافع بغير النافع، وأصبحت عنواناً استحق الكثير نيله، بينما لم يستحق كثير آخر تعليقه، ولذا أصبح الإنسان بقدرته وجهده وعمله دون عنوان يذكر محدداً لمكانته وفارضاً قدرته، فيحكم الناس له بكونه مثقفاً أو غير ذلك.
ولذا فما علينا إلا طي ذلك الماضي والنظر بمنظور جديد إلى مفهوم الثقافة والمثقف ليحترمهم المجتمع ويعبر من خلالهم إلى اللحاق بالعالم الآخر.