الرياض - خاص بـ»الجزيرة»
في ظل التغيّرات المتلاحقة التي يشهدها عالمنا المعاصر، وبخاصة التطور المطرد في وسائل الإعلام والاتصال، وشبكة المعلومات الدولية «الإنترنت».. أضحت المجتمعات الإسلامية هدفاً مباشراً لهذه التغيّرات بهدف التأثير على سلوكياتها وأخلاقياتها، مما أفرز تغيّراً في سلوك بعض أفراد المجتمع المسلم يتنافى، ويتعارض مع أحكام الإسلام وآدابه، مما أظهر لدينا أفراداً لديهم ازدواجية في الشكل والمضمون.. في ظل ذلك: ما المطلوب من المؤسسات الدينية، ووسائل الإعلام الإسلامية - على اختلاف تعددها وتنوعها - تجاه تبني خطاب إسلامي معتدل يؤكّد على القيم الحقيقية للإسلام، ويتصدى لحالة الازدواجية بين الشكل الذي أصبح معضلة، وبين المظهرية والخواء الذي أصاب المجتمعات الإسلامية؟ حول تلك التساؤلات يجيب عدد من أصحاب الفضيلة.. وفيما يلي نص أحاديثهم:
إستراتيجية للمواجهة
بداية يشير د. حسين بن عبد الله العبيدي رئيس قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض إلى أن الله سبحانه وتعالى خلق الثقلين الجن والإنس لعبادته وتوحيده وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا الأمر للناس فانقسم الناس فريقين فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، وجعل الله سبحانه وتعالى هذه الدنيا دار ابتلاءً وامتحاناً ليميز الله الخبيث من الطيّب، وانقسم الناس إلى مؤمن وكافر كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}، وذلك منذ العداوة الأزلية بين آدم عليه الصلاة والسلام وبين عدوه اللدود إبليس لعنه الله، حيث قال الله تعالى عنه في محكم القرآن: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، واستمرت هذه العداوة بين المسلمين وأعدائهم الكافرين، وسيستمر هذا الصراع بين الخير والشر واتباعهما إلى يوم القيامة إلاَّ أن الله سبحانه وتعالى قد تكفّل بحفظ دينه، ولا تزال طائفة من هذه الأمة منصورة حتى قيام الساعة، وقد كان هذا العداء سافراً بين المسلمين وأعدائهم قائماً على الحروب والصراعات إلاَّ أن في هذه الأزمنة اتخذ منحى آخر أخطر من سابقه وهو غزو المجتمعات المسلمة فكرياً عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة حتى أضحت المجتمعات الإسلامية هدفاً مباشراً من قبل أعدائهم في هذه التغيّرات بهدف التأثير على سلوكياتها وأخلاقياتها، وتأثر كثير من أبناء المسلمين وبناتهم بهذه الهجمة الشرسة فأخذوا ما عند أعدائهم وقلّدوهم وتخلقوا بأخلاقهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القدوة بالقدوة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه..).
فأفرز هذا الغزو تغيّراً في سلوك بعض أفراد المجتمع المسلم يتنافى ويتعارض مع أحكام الإسلام وآدابه مما أظهر لدينا أفراداً لديهم ازدواجية في الشكل والمضمون، وهذه انهزامية وذلة وتبعية للأعداء، وقد أخبر الله تعالى أن هؤلاء الكفار وأعوانهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم وإنما غرضهم أن يرجعوا عن دينهم ويكونوا كفاراً بعد إيمانهم فهم باذلون قدرتهم في ذلك ساعون بما أمكنهم فقد ألّفوا الجمعيات ونشروا الدعاة وأوجدوا وسائل الإعلام والاتصال وشبكات المعلومات الدولية كل ذلك لجذب الأمم إلى دينهم وإدخالهم عليهم كل ما يمكنهم من الشُّبه التي تشككهم في دينهم، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وإن الواقع المعاصر شاهد بذلك فإن أعداء الإسلام يبذلون جهودهم في إخراج المسلمين من دينهم أمر بث الشبه التي تشككهم وذلك عبر وسائل الإعلام والاتصال التي يبثونها، ألا أن هذا مما يحتم على أمة الإسلام وبخاصة أهل العلم وأرباب الأموال بأن يهبوا ويجابهوا هذا الغزو، فأهل العلم بالبيان والإرشاد والدعوة إلى الله بالحسنى وبيان مغبة هذا التصرف، وأرباب الأموال بإيجاد الوسائل الإعلامية المناسبة التي تدحض هذه الشبهات المثارة والأخلاق الهابطة وتدعو إلى محاسن الإسلام وقيمه، وأن تكون الدعوة بما يناسب العصر وبالطريقة المثلى فلكل مقام مقال لذا نجد الله سبحانه وتعالى يقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في كثير من الآيات، والجهاد بالمال، كما أن المطلوب من الأمة المسلمة تنويع أساليب الدعوة ووسائلها التي تظهر القيم الحقيقية للإسلام وتتصدى لحالة الازدواجية بين الشكل والمظهرية والخواء والتأثر الذي أصاب كثيراً من المجتمعات الإسلامية، بل إن هذا من أمثل أساليب الدعوة ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن داعياً ومعلماً قال له: إنك تأتي قوماً أهل كتاب وفي هذه التوطئة تنبيه له بصفة المدعوين ليتأهب لهم وليدعهم بما يناسب حالهم، وهكذا الدعوة في وقتنا المعاصر ينبغي أن تتأسس بهذا المنهج النبوي الكريم، كما أن الواجب على المؤسسات الدينية كافة أن تتبنى هذا الهم لتسهم فيه بحظ وافر يوقظ الأمة من رقدتها ويدفع عنها الذل والصغار والتبعية لأعدائهم حتى يربط الجيل المسلم بدينه على الوجه المرضي، وحتى ينشأ الجيل المستقبل على آداب الإسلام وتعاليمه.
الخطاب الدعوي المعتدل
أما د. عبد الله بن فهد اللحيدان مستشار الشؤون الإسلامية وحقوق الانسان فقال: أعتقد أن من الأهمية بمكان دراسة هذه المتغيرات (المتمثلة في التطوير الهائل في وسائل الإعلام والاتصال وشبكة المعلومات الدولية «الإنترنت») على سلوكيات وأخلاقيات أفراد المجتمع المسلم. ومثل هذه الدراسة ضرورية لتحديد وتشخيص هذه الظاهرة ومعرفة أبعادها وهي التي ستحدد ما يجب على المؤسسات الدينية ووسائل الإعلام الإسلامية عمله لنشر الخطاب الإسلامي المعتدل الذي يؤكّد على القيم الحقيقية للإسلام ويتصدى لحالة الازدواجية في الشكل والمضمون.
ولذا أرى من الأهمية بمكان تنظيم ندوات يدعى للمشاركة فيها بأوراق علمية ووفق الضوابط الأكاديمية و تدرس هذه الظاهرة بكافة أبعادها ووصولاً لتوصيات محددة.
وعموماً فإني أقول إن المؤسسات الدينية متمثلة بالمساجد والجوامع والمحاضرات والندوات والكلمات الوعظية وخطب الجمعة تقوم بدور مهم للمحافظة على أحكام الإسلام وآدابه ولا نستطيع أن نكلفها بأدوار تخرج بها عن نطاقها ولكن من الأهمية تفعيل هذه الأدوار من خلال رفع مستوى الأئمة والخطباء والدعاة بالدورات التدريبية العلمية وكذلك المحاضرات لتطوير المهارات الإدارية والنفسية والإعلامية.
أما وسائل الإعلام الإسلامية فهي مجتهدة ولكن ينقصها الدعم والتأهيل، حيث إنها حالياً امتداد للمؤسسات الدينية، بينما المفروض أن تركض في ميادين جديدة مع احتفاظها بالثوابت الدينية، لكنها ما زالت تمارس الخطاب الوعظي بصورته البسيطة والمباشرة، بينما المشاهد والقارئ أصبح يتمتع باطلاع واسع وثقافة شمولية. صحيح أن لهذه القنوات والوسائل جمهورها ومتابعيها ولكن الهدف هو الوصول إلى كافة شرائح المجتمع والتأثير في الفئات التي قد لا تصل إليها المؤسسات الدينية ووسائل الإعلام الإسلامية التقليدية. ولكني ما زلت أرى أهمية القيام بمزيد من البحوث العلمية لذا فإني أعود وأؤكّد على أهمية عقد الندوات العلمية وتشجيع البحوث الميدانية لمعرفة حجم الظاهرة وأسبابها وصولاً إلى وضع الحلول المناسبة من خلال تطوير عمل المؤسسات القائمة أو إيجاد مؤسسات جديدة و برؤى جديدة.
الغزو داخل الدار
أما د. إبراهيم بن عبدالله الدويش - الأستاذ المشارك بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة القصيم - فقال: الصراع بين الحق والباطل قديم قدم البشرية، وافتراق الناس إلى أهل الحق ودعاة الباطل، ولكن الذي جعل مفعول هذا التحدي سريعًا هو التطور الحاصل في عالم التقنية ووسائل الإعلام التي جعلت العالم قرية كونية، لم تعد السدود والحدود بنافعة ولا مانعة كما كانت الحال في السابق، حيث صرنا نُغزى في عقر دارنا، وفي بيوتنا ومنتدياتنا عبر الفضاء والشبكة العنكبوتية، وأعتقد أن المسئولية الملقاة على عاتق المؤسسات الدينية، ووسائل الإعلام الإسلامية كبيرة جدًّا من أي وقت مضى، بل لا يجب أن نبقى مدافعين بل علينا أن نفتح جبهات هجوم مضادة في الإعلام وظيفتها كشف عوار الإعلام الغربي وفضحها، وبيان ازدواجيتها في تعاملها مع القضايا الإسلامية، وذلك كما يقال في المثل العربي: «لا يفل الحديد إلا الحديد»، فالهجمات الشرسة التي نتعرض لها ازدادت ضراوة في ظل شبه غياب القنوات الإسلامية الحرفية المتخصصة، والتي تعمل بمهنية عالية، وتضم كوكبة من الإعلاميين المحترفين يتقنون لغة القوم، ويعرفون عاداتهم وأساليب التأثير عليهم، ومن أين تؤكل الكتف. وأما العلماء والدعاة فبرأيي لن يكون لهم التأثير المأمول إلا بالتحالفات وبتحويل أعمالهم إلى أعمال مؤسسية مدروسة، بدل الجهود الفردية والاجتهادات الشخصية، وأن يكثفوا جهودهم الإعلامية والدعوية وفق خطوات مدروسة بدقة يتم تقييمها بين فينة وأخرى، ويجب أن يستخدموا في إيصال كلمة الحق التقنيات والتطورات الهائلة في عالم وسائل الاتصال، وهذا ليس أمرًا محالاً ولا صعبًا في عصرنا هذا كما يتصوره البعض، ولذا أقول لإخواني العلماء والدعاة والمربين: كونوا حيث أنتم، وفي الثغور التي ترابطون فيها، ولكن استفيدوا من التقنية الحديثة التي تنقل صوتكم وأفكاركم ودعوتكم إلى الملايين ممن هم بحاجة إليكم وإلى دعوتكم، فبدل أن يسمعكم الحضور أو طلابكم فقط اجعلوا يسمع دروسكم ومحاضراتكم الملايين من البشر في شتى بقاع الأرض، ممن يبحثون عن المعرفة والحقيقة، فأنتم قادرون اليوم بفضل الله ثم بفضل التقنية المعاصرة لهذا دون عناء كبير، ودون أن تغادروا منازلكم ومساجدكم...؟ والأهم من ذلك تبني خطاب إسلامي معتدل أعني به الموافق لسنة سيد البشر ودون إفراط وتفريط، والحرص على إبراز الأخلاق الإسلامية وإظهار كنوز وجمال الشريعة الإسلامية في مجالات شتى، وأنها سباقة إلى العدل والإنسان وإرساء دعائم الحرية، وأن فيها كل الخير، ولكن التقصير منا، فنحن مقصرون في إظهارها وبيناها للناس، كما أن من المهم جدًّا تحصين الجبهة الداخلية بتربية النش والشباب على المبادئ والقيم، وبث الثقافة الإسلامية، ونشر الآداب والأخلاق والفضيلة، وتعزيز الهوية، وكشف زيف التغريب والعولمة، وذلك عبر برامج إبداعية وواقعية يشارك فيها من المربين التربويين المتخصصين في مجالات شتى.