غرقت جدة عندما كنت رضيعاً، وغرقت اليوم كما غرقت بالأمس. لم تغرق جدة في سيول الأمطار، بل غرقت في ثقافة مجتمع. جدة لم تتمرد على ثقافة مجتمعنا فلم نعاتبها بدلاً من أن نُكرمها، فمن عادات مجتمعنا معاقبة المتمرد على ثقافته لا الملتزم المطيع. وأسباب غرق جدة هو نتاج ثقافة لا تكاد تخلو منها مدينة ولا وزارة ولا جامعة ولا مدرسة.
بكينا جدة وحُقّ لنا؛ بكينا جدة لأن ما حدث فيها رأته العين، وما تراه العين أقوى وأشدّ أثراً مما تسمعه الأذن، فكيف بما لا يُدرك إلا عقلاً فقط.
ما حدث في جدة هو نتيجة لبعض أبرز الظواهر المنتشرة في ثقافة المجتمع. فمن ذلك الطفولية في التفكير. فنحن لا نفكر جديّاً في الشيء إلا بعد حدوثه، حتى إذا حدث استنفذنا جهودنا وطاقاتنا في إظهار عواطفنا والتباكي والبكاء والدعاء بالويل والثبور، ثم ما نلبث أن ننسى كالأطفال. ومن أبرز ظواهر ثقافتنا هو أننا قوم لا توسط عندنا، فإما ارتجالية في القرارات وإما بيروقراطية تجعل من تحريك دبوس عن الأرض مسألة تحتاج إلى عقود. واللجان الحكومية من ثقافتنا أيضاً.
ما حدث في جدة من سوء تخطيط سابق لم تتفرد به جدة عن كثير من أمورنا وأوضاعنا السابقة. عدم اكتراث المسؤولين بتحذيرات ما قبل السيول في العام الماضي ثم بيروقراطية اللجان فيما بعد السيول ليست بدعة من بدع جدة، بل هي الغالب في ثقافة المجتمع عندنا. التجاوزات والمحسوبيات التي كانت، أهي من خصوصيات جدة أم أنها قد تعتبر أحياناً من شيم ومكارم المجتمع السعودي الذي يفتخر به أفراده؟.
ما حدث في جدة يحدث يوميّاً في كل القطاعات والمدن، ولكن بعضها يدفنه التراب كالقطاع الصحي وبعضها يغيب في ظلمات العقول كالقطاع التعليمي وبعضها تُغطى مشاكله بأموال البترول.
ما شذت جدة عن مجتمعها السعودي، إنما كانت مصيبتها مرئية وسريعة، وهذا خير لها، فلعلها تظفر بما قد لا يتوفر لغيرها مستقبلاً.
جاءت سيول جدة فانشغلنا بما لا نفع فيه ولا يمكننا تحقيقه. انشغلنا بالتحقيق في أمور نعرفها. انشغلنا في أحاديث الماضي، والحديث في الماضي غالباً ما يكون من تضييع للجهود والأوقات. ما مضى قد مضى، بخيره وشره، وما أصبح عاراً وفساداً اليوم لم يكن كذلك بالأمس، فلم الالتفات إلى الماضي والانشغال به عن الحاضر والمستقبل.
تمر المجتمعات والدول في مراحل تأسيسها وتطورها بمراحل قد يراها الأحفاد مثلبة بينما كان يراها الأجداد مفخرة. والتطور والنمو يستلزم حتمية هذه المراحل. ولننظر إلى دول العالم، ألم تمر بمراحل يندى لها جبين الأجيال المعاصرة بينما كانت مفخرة للأجداد، فلا يعيب الأحفاد الأجداد، ولكنهم لا يقبلون تكراره (كالعبودية والعنصرية ووضع المرأة في أمريكا). فالمجتمعات الناضجة لا تتطلع إلى الخلف بل إلى الأمام. وأهمية الماضي تكمن في أخذ العبر والدروس منه لا من أجل أن تفنى الأعمار والأموال في جدال عقيم من أجل التبرؤ من التهم وتوجيه الملامات. نحن لسنا بحاجة إلى لجنة ملاحقة المتسببين في مشاكل جدة، فالمجتمع كله متسبب في هذا، وهذه ثقافته التي كان عليها.
إن مما سكت عنه أن طريقة التفكير والحوار حول سيول جدة واللجان المُشكلة هي من بقايا ثقافة المجتمع التي كانت السبب وراء مشاكل جدة وغير جدة، وإن لم نخرج بفكرنا عن المألوف في ثقافتنا، فلا يقعد بنا الماضي عن المستقبل، فستكون هناك سيول كثيرة.